مدونة د. بهاء الدين الجاسم


تقرير حول محاضرة (تغيّر الأحكام في الشريعة الإسلامية)

د. بهاء الدين الجاسم | Dr. Baha Eddin ALJASEM


09/10/2020 القراءات: 1351  


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن من أهمّ ما تتميز به الشريعة الإسلامية، جمعها بين الشمول والثبات من جهة، والمرونة من جهة أخرى، مما جعلها صالحة للتطبيق في كل زمانٍ ومكان. وهذا ما يعبّر عنه بقضية الثبات والتغيّر في الأحكام الشرعية.
تهدف هذه المحاضرة إلى تقديم دراسة تأصيلية لقضية ثبات وتغيّر الأحكام الشرعية، فقد ظهرت في الآونة الأخيرة دعوات كثيرة إلى تجديد الفقه وتغيير كل الأحكام الشرعية، وذلك بدعوى صلاحية الشريعة لكل زمانٍ ومكان، وأن تغير الأحكام لا ينكر بتغير الأزمان. وفي مقابل هذه الدعاوى ظهرت أيضاً دعاوى للدفاع عن الأحكام الشرعية والتمسك بها جملةً، دون مراعاة الثابت والمتغير منها. وفي هذا البحث حاولت بيان الأحكام الثابتة، والأحكام القابلة للتغيير، مما يضع الضوابط والحدود الشرعية لضبط هذه القضية.
احتوت المحاضرة على أربعة محاور أساسية: الأول في تحرير مفهوم تغيّر الأحكام، والثاني في بيان ضوابط التفريق بين الأحكام الثابتة والأحكام المتغيّرة، والثالث في بيان أسباب تغيّر الأحكام، والرابع في عرض بعض الأمثلة والنماذج التطبيقية.
وفي تحرير مفهوم تغير الأحكام توصل الباحث إلى أنَّ تعبير "تغيّر الأحكام" إنما هو تعبيرٌ مجازي، لأن الحكم في حقيقته ثابتٌ، لأنه خطاب الله تعالى، القديم الأزلي، وإنما المتغيّر هو أفعال المكلفين والظروف والمعطيات المحيطة بالواقعة، وبتعبير آخر، المتغير هو متعلَّق الحكم، وليس الحكم ذاته، إذ الواقع أن المجتهد إذا عرضت عليه مسألة من المسائل، راعى ظروفها وملابساتها والوسط الذي حدثت فيه، ثم استنبط لها الحكم المتفق مع كل هذا، فإذا تغير الوسط، وتبدل العرف، تغيرت بذلك المسألة، وتبدل وجهها، وكانت مسألة أخرى اقتضت حكماً آخر، وهذا لا ينفي أن المسألة السابقة بظروفها ما زالت على حكمها، وأنها لو تجددت بظروفها ووسطها لم يتبدل حكمها. وطالما أن الفقهاء المتقدمين قد استخدموا هذا التعبير "تغيّر الأحكام"، فلا حرج في استخدامه في هذا البحث أيضاً، إذ لا مشاحة في الاصطلاح.
وأما ضوابط التفريق بين الأحكام الثابتة، والأحكام التي تقبل التغيير، فقد تمت دراسة هذه الضوابط من خلال بيان أنواع هذه الأحكام، وهذا التقسيم يكون من ناحيتين: ناحية أصول الفقه، وناحية الفروع الفقهية.
فمن الناحية الأصولية، تختلف أنواع الأحكام باختلاف ناحية النظر إليها، ويمكن تقسيماه إلى الأنواع الآتية:
- بالنظر إلى مصدر الحكم فإنها تنقسم إلى: الأحكام الثابتة بالنص، والأحكام الثابتة بالاجتهاد.
- بالنظر إلى غايتها فإنها تنقسم إلى: أحكام المقاصد، وأحكام الوسائل.
- بالنظر إلى التعليل وعدمه فإنها تنقسم إلى: الأحكام المعلّلة، والأحكام غير معلومة العلة.
- بالنظر إلى شموليتها فإنها تنقسم إلى: أحكام التشريع العام، وأحكام التشريع الخاص.
ومن ناحية الفروع الفقهية تختلف أنواع الأحكام باختلاف ناحية النظر إليها أيضاً، ويمكن تقسيماه إلى الأنواع الآتية:
- بالنظر إلى موضوعها، فإنها تنقسم إلى: أحكام العبادات، وأحكام المعاملات.
- بالنظر إلى التقدير وعدمه، فإنها تنقسم إلى: أحكام مقدّرة، وأحكام غير مقدّرة.
وخلاصة الكلام في هذه الضوابط، هو أن الأحكام القابلة للتغير يشترط فيها ما يأتي:
أ- ألا تكون من الأحكام التي دلت النصوص عليها بصيغة المفسر أو المحكم عند الحنفية، أو النص عند الجمهور، لأنها لا تحتمل التأويل والتغيير.
ب- ألا تكون من الأحكام التي وردت مفصلة بأحكامٍ مخصصة في القرآن، كأحكام المواريث.
ت- ألا تكون من أحكام مقاصد الشريعة الكلية، كحفظ الضروريات الخمس.
ث- ألا تكون من أحكام الوسائل الثابتة بالنص، كأحكام الحدود.
ج- ألا تكون من الأحكام غير معقولة المعنى (غير معللّة)، كأصول العبادات.
ح- ألا تكون من القواعد التشريعية العامة الكلية، كوجوب الوفاء بالوعد، وتحريم الظلم.
خ- ألا تكون من أحكام العبادات الأصلية، كأركان الصلاة، ومقادير الزكاة.
د- ألا تكون من الأحكام التي ثبتت مقدرةً تقديراً محدداً، كمقادير الحدود، وأنصبة الزكاة، والمواريث.
ولا يخفى أن في هذه الضوابط العديد من التقاطعات المشتركة، فمثلاً: أحكام العبادات تدخل ضمن الأحكام غير معقولة المعنى، والأحكام المقدّرة في الغالب تكون من الأحكام الثابتة بالنصوص القطعية، وهي غير معقولة المعنى، وأحكام المقاصد هي من الأحكام التي ثبتت بطريقٍ قطعي، أو على أنها تشريع ثابت إلى يوم القيامة، وهكذا.
ومن هنا يلاحظ أيضاً أن ما جاء من الأحكام المتعلقة بأصول العقائد، والعبادات، والطبيعة البشرية، والعلاقة بين الجنسين، جاء في النصوص التشريعية مفصلاً، فمهما تغيرت الحضارة الإنسانية عند المسلمين، ومهما تباعدت أمكنتهم وأزمنتهم، فلن يجدوا حاجة إلى أن يصلوا الظهر خمس ركعات، أو يصوموا من الظهر إلى المغرب، عوضاً عن الصيام من الفجر إلى المغرب، ولن يجدوا أنفسهم محتاجين إلى أن يجعلوا المرأة هي التي تدفع المهر، أو أن تملك حق الطلاق، فهذه الأمور معزولة عن تأثير الزمان والمكان، ولذلك كانت النصوص فيها غزيرةً، مما يضيق دائرة الاجتهاد فيها، ويكون الخلاف فيها في جزئياتها الدقيقة فقط، كما هو واضح في أحكام الصلاة والصيام والحج، في حين أن أوضاعاً وشؤوناً من نحو الشورى، وتنظيم المعارضة، وانتقال السلطة، وشكل الحكومة، والعلاقات الدولية، وتنظيم القضاء، وإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، ونحو ذلك... كل هذا مما يتغير بتغير الزمان والمكان، ولهذا كانت النصوص التشريعية قليلةٌ جداً، وما هي إلا توجيهاتٍ عامة، ومبادئ كلية، وخطوط عريضة، بل وإن هنالك بعض الأحيان تصمت الشريعة صمتاً تاماً تجاه بعض الأمور المتغيرة، فلا تسن أي تشريع، وذلك من أجل إتاحة الفرصة الكاملة لعقل الإنسان لكي يفكر ويجتهد ويبدع
وأما أسباب تغيّر الأحكام، فمن أبرزها:
تغيّر أو زوال العلّة، وتغيّر المصلحة، وتغيّر الزمان أو المكان، والمشقّة أو الحاجة، وتغيّر معلومات المجتهد، والنظر في المآلات. وقد تم عرض الضوابط والأمثلة لكل سبب من هذه الأسباب.


تغير الأحكام، الأحكام القطعية، الأحكام المتغيرة، العرف، التطور العلمي.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع