قراءة تأويلية في القصيدة السياسية عند البردوني
الدكتور علي حفظ الله محمد | Dr. ALi Hifdallah Mohammed
14/05/2022 القراءات: 1727
د. علي حفظ الله محمد
البردوني كتعريف موجز به؛ فهو نكبةُ أَبيهِ، وَشَفعُ أَخيهِ، وسِرُّ سَعادةِ النّاسِ، ومِن شُهرةِ اسمهِ لا يُسمَّى، فجاء كوَتَرٍ ذي نَغَمٍ وَصَوتٍ فَريدَينِ؛ أدَّى إلى ترنيم الصوت الشعري في ظلِّ التّعدُّديةِ المختلفة. أما القصيدة السياسية عند البردوني فاتسمت بالتحول من صراحة غرض الهجاء- كما كان يحدث في النقائض بين جرير والفرزدق؛ أو بين بشار وحماد – إلى ديبلوماسية القول إن صح التعبير؛ أو القدح/النقد السياسي بالمفهوم الذي تبنّاه الشاعر نفسه في حديثٍ مُسجّلٍ له؛ فأخذت القصيدة عنده شكلًا آخر؛ والغايةُ من ذلك أن القصيدة السياسية بصفة عامة تؤدي دورين/غايتين: الأول إيقاظي “إقناعي”، ويستخدم هذا الغرض الإقناعي لاستمالة المتلقي، استطاع الشاعر بواسطته استعطاف المستمع والتأثير فيه والظفر بإقناع (الجمهور المتلقي)، وهو ما يسمى الإيطوس “Ethos” عند “هنريش بليت”، كما قد يستخدم الإقناع خارج النّص فيمارسه أي إنسان كالفلاح، والتاجر، والطفل، والمرأة..، أو الشاعر، في سبيل توصيل رسالته الأخلاقية؛ وهدفه خلق المتعة الجمالية للجمهور والتنفيس عنهم، وفي نصوص البردوني ترددت الألفاظ التي تعكس واقع الحياة، واستعملها رمزًا لشواهد الحياة السياسية ورمزًا للشواهد التي لا يملك الإنسان القدرة على البوح بها في الواقع؛ فكانت محفِّزًا للوعي الجمعي، وَمُتَنَفّسًا واسعًا؛ لأنه يعبر عن مكنون صدورهم، وخلجات قلوبهم، ومعاناة أفئدتهم وجوارحهم.
وأما الثاني فيؤدي دورًا قوميًا واجتماعيًا وثقافيًا؛ وهو من أهم العوامل التي كان لها الأثر والتأثير الأبرز في توجيه شعر البردوني نحو تبني الأوضاع في اليمن ونقد الحاكم أيًا كان توجهه وأيًا كان حزبه؛ وقد تولَّد هذا الاحساس من نشأته في بيئةٍ ريفيةٍ فقيرةٍ لا يجد فيها مقومات الحياة، ومن سوءِ حظهِ أَنْ أصابه مرضُ الجدري فأدّى إلى سَلبِ نِعمةِ البصر منه، فلم يَنعَم بحلاوة الإبصار، وحلاوة الضياء، ونضارة المناظر والجمال الرؤيوي في الحياة، فجاء شعرُهُ تَعبيرًا واقعيًا عن ملموسِ الحياةِ التي عاشرها، بصورٍ شعرية كثيفة، ودلالات أكثف، وألفاظ مُتخيَّرة طيّعة نقلت تلك الدلالات والصور بشكل أجود وأكثر دلالة من لغة الحياة الطبيعية، كلُّ ذلك أدَّى إلى صقل موهبته الشعرية وجعل اللغة أطوع له من غيره؛ فسخَّرَها في خدمة الأمة القومية، بعيدًا عن أيدلوجيا المذاهب والأهواء التي ينطوي ويتقوقع تحتها بعضُ الكُتّابِ والشُّعراءِ وَيرغونَ في ظلِّ كابوسها الظلامي البئيس، أما البردوني فقد كان كنحلة لم تجد ما تأكله من رحيق الأزهار فاعتصرت ما بداخلها وأنتجت عسلًا مصفى فيه شفاء للناس، عسلًا خاليًا من صفاتِ الكراهية والبغضاء للذّواتِ، في مقابل نقد الصفات اللئيمة والعنصرية البغيضة التي تعكِّرُ صَفوَ حَياةِ النّاس، في ظلِّ جغرافيا النَّفسِ المنبسطة والسماءِ الهامية، والأَرضِ الممتدّةِ، ومما قاله في ذلك:
عيدُ الجلوسِ أَعِرْ بِلادَكَ مَسمَعًا**تَسألُكَ أَينَ هَناؤها هل يوجَدُ
تمضي وتأتي والبلادُ وَأَهلُها**في ناظرَيك كما عهدتَ وتعهدُ
فيمَ السكوتُ ونصفُ شَعبُكَ ها هنا**يَشقَى؛ وَنِصفٌ في الشّعوبِ مُشَرَّدُ
يا عيدُ هذا الشَّعبُ ضاعَ نُبوغُهُ**وَطَوى نَوابِغَهُ السُّكونُ الأَسودُ
تحت الرَّمادِ شَرارةٌ مَشبوبَةٌ**وَمن الشَّرارةِ شُعلَةٌ وَتَوقّدُ
الشَّعبُ أَقوى مِن مَدافِعِ ظالمٍ** وَأَشَدُّ مِن بأسِ الحديدِ وَأَجلَدُ
والحقُّ يَثني الجَيشَ وَهو عَرَمرَمُ**وَيَفِلُّ حَدَّ السَّيفِ وَهو مُهَنَّدُ
مثَّلَ هذا النصُّ نقدًا لاذعًا للأوضاع التي كانت ترزح تحت وطأة الحاكم؛ بل قدحًا وقذعًا سياسيًا ومعارضات شديدة؛ باستعمال أداة اللغة، والشعر على رأسها ومن أشد أسلحتها، فهو شعرٌ هجائي، ولكنه ليس كما كان يحدث بين فردين، أو قبيلتين، وإنما هجاءٌ يمس الأوضاعَ في سبيل شحذ الهمم لتحقيق أوضاعًا أفضل، وحكمًا أحسن، وخلق مجتمع أوعى؛ استهلَّه بنداءِ “عيد الجلوس” مجازًا والمقصود مخاطبة الحاكم آنذاك قصد شد انتباهه، وللإشارة إلى أنه صنم كالكرسي لا إجابة منتظرة منه، وثنَّى بفعل أمر الإعارة “أَعِرْ بلادَكَ مسمعًا” إذ مثَّلَ به نوعًا من التوبيخ والاستهجان، حين جعل الحاكم أصم وأبكم عمّا يجري في الشعب وما يعانيه من فقر وبؤس، ثم أردف بسؤاله: أين هناؤها هل يوجد؟ فجسَّدَ البلاد في هيئة متظلمة تبحث عن إنصاف وعن حياة يملؤها الهناء والسعادة ممن لا يملكها، فهل يوجد لديك ما تلبي طلبها، أم أنك تمضي لحال سبيك، ثم تأتي وهي على سابق عهدها لم يتغير شيء فيها، ثم ثنّى له بسؤال توبيخي: فيمَ السكوتُ ونِصفُ شَعبُكَ يَشقَى؟ وَنِصفٌ في الشّعوبِ مُشَرّدٌ؟ أخذ في محاكمة المسؤول عن سكوته أمام شقاء الشعب وتشرُّدِهِ، فلم يجبه، فكرّرَ عليه النداء “يا عيد” للتأكيد وفضل اهتمام بهذه الحالة المتمثلة في الضياع والذل، والموت المشار إليه بـ”السُّكون الأسود”؛ وكل ذلك من جراء الفقر والأمراض والأوبئة التي تفتك به. ثم أخذ في تحذير الحاكم من سطوة الشعب وفتكه، فضرب له مثلًا بأساليب عدة، وصوَّرَ له الشعب كأنه شرارةٌ مشبوبةٌ تحت الرماد، ومنها يتولّد الاشتعال والاتقاد، والشعب أشدُّ من مدافعِ حاكمٍ ظالمٍ، وأقوى من حديدٍ لا يُفلُّ، لأنه يتمتع بالحق الذي يثني الجيش الكبير، كما يُفَلُّ أَمضى السيوف الهندية الصقيلة، ومع كل هذا القدح للأوضاع لم يتغير شيء، وكأن لم يكن، بل قيل إن الإمام كان يأخذُهُ الشِّعرُ فلا يذكرُ أَنْ يَسيءَ إلى الشّاعرِ؛ ولا يميل إلى إصلاح الأوضاع؛ وما يؤكد ذلك من طرائفهِ أَنَّهُ هجا الإمام بقصيدة منها:
لن ترحم الثّوار والهتافة**هلَّا رَحِمتَ السَّيفَ والسّيافا
أَوَما على المِقدامِ يومَ النَّصرِ أَنْ** يَرعى الشّجاعَ وَيرحَمُ الخوّافا
أَسَمِعتَ عَن شَرَفِ العَداوَةِ كي تَرى**لِخضَمِّ تَقطيعِ الرؤوسِ ضِفافا
فقال الإمام كلمته الشهيرة: “أُريدُ أَنْ يُقال: إِنَّ فُلانًا نَبَغَ في عهدي فَلَم أَترُكْ مَحسِنَةً
الإقناع، الحجاج، التأويل، البردوني.
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع