مدونة احمد فؤاد ابراهيم المغازى
علم الجغرافيا بين ثورتين
احمد فؤاد ابراهيم المغازى | Ahmed Fouad Ibrahim Elmoughazi
09/10/2020 القراءات: 2691
نشأت الدراسات الجغرافية منذ قديم الازل مع نشأة الانسان نفسة، حيث كان الانسان يقوم بكشف مناطق بيئته وارتياد ما حولة لعلة يعرف هذه البيئة ومسالكها، وما هي الامكانات الاقتصادية التي يمكن أن يستفيد منها وتتوافر في بيئته، وتولد بذلك لدى الانسان ما نسميه بالفكر الجغرافي الذى اعتمد على ركائز ثلاث هي؛ الكشف الجغرافي، ورسم الخرائط للمناطق المعروفة، والتأمل في المعلومات التي جمعها.
وقد أدي تزايد المعلومات الجغرافية الى انسلاخ بعض العلوم عن نطاق الجغرافيا لتكون علوماً قائمة بذاتها، ولكن هذه العلوم لم تنفصل كلية وإنما ظلت على هامشها لتخدمها، وبذلك وكما قيل: " لا يمكن اعتبار الجغرافيا علماً طبيعياً صرفاً ولا علماً انسانياً خالصاً، بل هي في موقف وسط تربط الظروف الطبيعية بالبشرية".
ومع تطور علم الجغرافيا وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين تأثر برياح ثورتين؛ الأولى كميه والثانية جيومعلوماتية، ولم تعد ذلك العلم الذي يهتم بوصف الظواهر الجغرافية فقط، بل أصبح الاتجاه التطبيقي أحد أهم الاتجاهات في الجغرافيا، وما تبع ذلك من تغير في المنهج والمحتوى والأساليب.
وقد استخدمت الجغرافيا الأسلوب الكمي منذ الستينات من القرن العشرين، وهى الفترة التي شهد علم الجغرافيا خلالها تطورات في المنهج والمحتوى، عرف بالثورة الكمية في الجغرافيا، حيث كانت بدايات استخدام الاساليب الاحصائية في دراسة وقياس العلاقات والتباينات المكانية بين الظاهرات الجغرافية، في محاولة للارتقاء بالدراسات الجغرافية، بما في ذلك طرق عمليات جمع البيانات وتصنيفها ومعالجتها وتحليلها، غير أنها عندما تعرضت لرياح الثورة الكميه في بدايتها ومن شدة حماس البعض ومغالاتهم ظهرت بعض الدراسات الجغرافية كما لو كانت في سباق لاستخدام القوانين والمعادلات الرياضية والاحصائية، وكلما زاد الاعتماد على هذه الادوات كلما كانت الدراسة قوية من وجهة نظر البعض، سواء كانت الدراسة في حاجة لمثل هذا التركيز الرياضي والاحصائي في المعالجة أم لا، الي أن هدأت الموجه واستقرت، وعدنا نأخذ من هذه العلوم بالقدر الذي يخدم البحث الجغرافي وفقط من دون مغالاة.
ومؤخراً ومنذ الثمانينات من القرن الماضي ظهر أسلوب الجيوماتكس في جامعة لافال الكندية، ومنه الى العالم – ونحن منه - وهو أسلوب متكامل متعدد التخصصات لاختيار الاجهزة والتقنيات المناسبة وتخزين ونمذجه وتحليل واسترجاع وعرض وتوزيع المعلومات المكانية الناتجة من عدة مصادر والمحددة الدقة والخصائص في صورة رقمية، ويشمل المساحة الارضية، والجيوديسيا، والتصوير الجوي، والاستشعار عن بعد، والنظم العالمية لتحديد المواقع، ونظم المعلومات الجغرافية، والاحصاء وتحليل البيانات، والكارتوجرافيا.
وتعرضت الجغرافيا لرياح الثورة الجديدة، ثورة الجيوماتكس، وهذا أمر جيد ومحمود ولا شك في أنه أحدث طفره نوعيه كبيره، لكن حدث نفس ما حدث في الثورة الكميه، فأصبح البعض يغالي في استخدام وتحجيم هذه الأدوات، وبسبب هذه المغالاة بل والتطرف أحياناً في استخدام التقنيات المتاحة تحولت الجغرافيا عند البعض من أصل الى تابع يلهث وراء التقنية المستخدمة، وبدلاً من أن يكون عنوان بحثه: (س) باستخدام الجيوماتكس، أصبح يقول: إستخدام الجيوماتكس في معالجة (س) ، وكأن البعض يتبرأ من تخصصه عمداً أو جهلاً.
وهذا لا يعنى أننا ضد تعميم استخدام التقنيات الحديثة في الجغرافيا سواء استخدمت كمنهج أو حتى كأداة، ولكن من المؤكد أيضاً أن البحث الجغرافي التطبيقي يمكن له أن يتطور عندما تتضافر خبرة الجغرافي مع خبرة المتخصصين في الجيوماتكس مع خبرة أي تخصص آخر له علاقة بموضوع البحث، أي عندما تكون الأبحاث مشتركة، وضمن فريق عمل واحد.
لقد انغمس البعض في التفاصيل، وانتقل من التفاصيل الي تفاصيل التفاصيل وتناسي أن الجغرافيا هي نظرة طائر وليست نظرة ميكروسكوب بمعمل، وأصبح كما لو كان لزاماً أن كل ما يبدأ بــــ لفظة (جيو) فهو جغرافيا ومقرر على الجغرافيين، ويلزم الالمام به وإتقانه، وأعتقد أن هذا غير صحيح، وغير ملزم، وتناسي البعض أن هذه علوم قائمه بذاتها ولها كلياتها الخاصة وكوادرها المتخصصة، وهي بالنسبة لنا أدوات هامه وفقط، وأن أنجح الأبحاث والدراسات وأكثرها تأثيراً وفائدة للمجتمع هي ما جمعت بين هذه التخصصات في فريق واحد عابر للتخصصات لمعالجة موضوع بعينة.
وعلى الرغم من أن الجغرافيا كعلم له تعريفه وميدانه ومحتواه وأهدافه وأهميته، إلا أنه وبسبب قماشته الطيعة المرنة، واتصاله وتشابكه وتداخله مع علوم أخري كثيرة، والذي يعد من اهم ميزات الجغرافيا كعلم، وبدل من أن نبدأ من حيث أنتهى الآخرون، أصبح البعض يبدأ من حيث بدأ الآخرون وينتهى معهم حيث انتهوا، ويغوص في هذه العلوم بقدر أكثر من اللازم الذي تنتهي عنده حدود علم الجغرافيا، فكانت هذه المغالاة التي كانت ومازالت قائمة في بعض الدراسات الجغرافية، وحولت الجغرافيا لتابع وأسير لعلوم وتقنيات عديدة، تصلح إذا أخذنا منها بقدر ما نحتاج، وتفسد إذا توغلنا فيها أكثر مما يطلبه البحث الجغرافي. لذا يجب العلم جيداً أن هذه التقنيات هي علوم مساندة ومساعدة للجغرافي في أداء مهمته كجغرافي لا أكثر.
الخلاصة:
لابد من نشر ثقافة العمل في فرق بحثية ضمن التخصص، وأخري عابرة للتخصصات حسب طبيعة الموضوع المراد معالجته، فإن الافتقار الى ثقافة العمل ضمن فريق جعلت لدينا هاجس بأنه ينبغي على الجغرافي أن يلم ويتعلم ويتقن تخصصه الدقيق ومعه وأحيانا قبلة تخصصات وعلوم أخرى قائمة بذاتها.
واعتقد أن هذه الحالة يجب أن تتغير بل وتصحح لنصل الي حالة من حالات التوازن بين ما ينبغي أن نحصله من هذه العلوم لخدمة الجغرافيا دون الجور عليها، فهذه الأدوات والتقنيات لاشك مهمه، ولكنها وجدت لخدمه الجغرافيا وتطوره كعلم لا أن ترث الجغرافيا.
وليصبح الشعار: " الجيوماتكس في خدمة علم الجغرافيا لخدمة المجتمع، وليست الجغرافيا في خدمة الجيوماتكس لخدمة المجتمع، فالفارق بين المعنيين كبير . نحن جغرافيون وهذا تخصصنا وهذه عب
الجغرافيا - الثورة الكمية - الثوره الجيومعلوماتية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة