مدونة محمد الصديق احمموشي


معركة وادي اللبن (1558م): الواقعة التي حالت دون بسط العثمانيين نفوذهم على كافة شمال إفريقيا

محمد الصديق احمموشي | Mohamed Seddik Hmamouchi


14/08/2020 القراءات: 8981  


بعد أن تمكنوا من القضاء على آخر معاقل الحكم الوطاسي بالعاصمة فاس في 14 مارس 1549، وجد السعديون أنفسهم وجها لوجه أمام الأتراك الذين تمكنوا من السيطرة على تلمسان في ذات السنة. فلم يكن لهم من خيار سوى مواجهة هذا الزحف العثماني الجديد بالمنطقة، خصوصا وأن "أبا حسون الوطاسي" المنهزم كان قد فرّ إلى الجزائر مستنجدا بالباب العالي لاستعادة عرشه.
وبالفعل انطلقت القوات المغربية نحو شرقي البلاد في شهر أبريل 1549، ودخلت خلال الشهر نفسه مدينة وجدة بقيادة محمد الحران بن محمد الشيخ الملك السعدي الجديد، فاضطرت القوات التركية إلى التراجع عن المدينة. ومن وجدة تقدم المغاربة نحو تلمسان التي دخلوها يوم 1550م وألقي القبض على الأمير الزياني الحسن حليف الأتراك وأرسل إلى فاس، بينما فرّ أخوه إلى الجزائر العاصمة طلبا لمساعدة العثمانيين.
كان رد الأتراك قويا، حيث انهزم المغاربة وقتل أحد أبناء محمد الشيخ، بينما أسر الثاني وقطعت يد الابن الثالث، كما لاحق العثمانيون قوات محمد الشيخ السعدي حتى مدينة دبدو المغربية الواقعة على الحدود بين الجزائر والمغرب.
وفي أبريل 1552، دخل الباشا الجزائر الجديد الموالي للعثمانيين في مفاوضات سرية مع أبي حسون الوطاسي لاسترداد عرشه، فوصلت القوات العثمانية إلى بادس شمال المغرب وعلى رأسها والي الجزائر في محاولة لنجدة الملك المخلوع الذي كان معززا ببعض القوات المحاربة المنتمية للقبائل المجاورة، كما انضم إليه ملك دبدو الذي كان لاجئا في مدينة مليلية. وقد حصلت اصطدامات عسكرية بين قوات محمد الشيخ والقوات العثمانية قرب بادس التي رسا بها الأسطول العثماني، أفرزت هزيمة أخرى للقوات السعدية، مما أفسح المجال أمام العثمانيين لمواصلة زحفهم نحو الداخل.
لم تكد سنة 1553 تنتهي حتى تمكنت القوات التركية من احتلال مدينة تازة الواقعة وسط المغرب، ودخلت مع السعديين في معارك متواصلة على مشارف العاصمة فاس، متمكنة من إحراز تقدم نحو هذه الأخيرة التي دخلوها يوم 8 يناير 1554م صحبة الملك المخلوع.
كان استقبال أهالي فاس لأبي حسون عظيما، ورحب به علماؤها وفقهاؤها، حتى أن عالم المدينة "الزقاق" ألقى خطبته الشهيرة مخاطبا سكان العاصمة: " هذا بقية أمرائكم الذين شيدوا البلاد وسعد بهم العباد وشرفوا المساجد وبنوا المدارس والقناطر وقاموا بأمر الدنيا".
من جهة أخرى، حرص الأتراك، وهم بفاس، على اغتنام الفرصة للإطاحة بأبي حسون الوطاسي وإعلان بيعة السلطان سليمان القانوني؛ "ولما رأى الترك محاسن البلاد ومنعتها.. فلما اجتمعوا بفاس الجديد ادعوا لأنفسهم وقبضوا على السلطان أبي حسون وقبضوا على خاصته وسدوا أبواب فاس الجديد وأخرجوا أهلها فبلغ الخبر أهل فاس البالي فخرجوا وأطلعوا بالشواقر والفيسان والسلالم لفاس الجديد فأشرف الترك من أسوار المدينة.. فخافوا .. فعند ذلك فتحوا الباب ودخل الناس إلى السلطان ثم أرسل إلى كبراء الترك والرؤساء منهم وأمرهم بالخروج وتبعتهم محلتهم".
بعد جلاء القوات التركية عن فاس وعودتها إلى قواعدها بالجزائر، أصبح أبو حسون يواجه مصيره مع خصمه محمد الشيخ "الذي جمع قوات من الحوز وسوس.. إلى أن نزل برأس الماء فخرج أبو حسون بأهل فاس وعرب أهل الريف ووقع الحرب بقرب عميرة أياما... وقتل أبو حسون وأكثر من معه من أهل فاس وأهل الغرب والريف". ثم دخل فاسا الجديدة وقدم عليه فقهاء فاس وأشرافها يطلبون الأمن فأمنهم وقبض على من تعين له فساده.. كالزقاق والونشريسي وعلى حرزوز فقيه مكناسة فقتلهم، وبذلك استعاد السعديون حكم فاس في 23 شتنبر 1554م.
ولتأمين حكمه على المغرب من أي مناورة عثمانية أخرى، بادر محمد الشيخ إلى عقد هدنة مع البرتغاليين والإسبان في مطلع سنة 1555. وأمام هذا الوضع لم يكن ممكنا غزو المغرب عسكريا من جهة الأتراك، فلجؤوا إلى تدبير مؤامرة اغتيال الملك المغربي، خصوصا وأن هذا الأخير كان قد اتخذ من الأتراك حرسه الخاص بعدما أظهروه من الإخلاص والطاعة له. وبالفعل تمكنت جماعة من الأتراك الاندساس في الحرس الخاص فقامت باغتيال محمد الشيخ خلال إحدى خرجاته التفقدية لتارودانت في 23 أكتوبر 1557م.
بعد هذا الاغتيال، ثارت ثائرة ابنه المولى عبد الله الملقب بالغالب بالله، الذي بويع سلطانا للمغرب، عازما كل العزم على الانتقام من الأتراك قاتلي أبيه محمد الشيخ، فهيأ قوات محاربة لصد الحملة العسكرية التي كان يقودها حاكم مستعمرة الجزائر، في محاولة منه استغلال كل هذه الأحداث الداخلية لاحتلال المغرب. "وقد جرت أخيرا معركة حاسمة بين قوات الطرفين يوم السبت الثاني من أبريل لسنة 1558 م قرب وادي اللبن حيث دارت الدائرة على القوات العثمانية التي فرت نحو الجبال المجاورة إلا أن المغاربة اقتفوا أثرها وهزموها في جبال الورغا كما استولوا على غنائم كثيرة. وأما باشا الجزائر وملك دبدو فقد انسحبا مع بعض القوات نحو مدينة بادس".
استغل الغالب بالله هذا الانتصار العظيم على الجيوش العثمانية للاستمرار في سياسة والده محمد الشيخ الرامية إلى مقاومة التوسع العثماني في المغرب مستعينا بسياسة الهدنة مع المسيحيين من الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين؛ فقد تنازل لفرنسا عن مرسى القصر الصغير، وتخلى للبرتغال عن مازغان، أما الإسبان فقد أطلق يدهم في جزيرة بادس بعد أن استرجعوها من العثمانيين منذ أن تنازل لهم عنها أبو حسون الوطاسي مقابل مساعدته ضد محمد الشيخ السعدي.

المصادر:
المصادر الأصلية لتاريخ المغرب، م1، إسبانيا.
مؤلف مجهول، تاريخ الدولة السعدية.
عبد الكريم كريم، المغرب في عهد الدولة السعدية.


المغاربة، الأتراك، معركة وادي اللبن، 1558م


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع