تجليات التراث في النص الروائي
د. يوسف دفع الله حسين محمد | Yousif dafa alla husin mohmmed
17/12/2021 القراءات: 3852
إنَّ التراث والزمن والإنسان، ثلاث أضلاع تلتحم بقدر تداخلها لتضفي الحدث على المكان، فلا تخلو حياة الإنسان من تراث، بوصفه مكونا من مكونات حياته، يقوم بدور المعبر عن فكره، والمبرر لوجوده، وقد تعددت أنماطه وتنامت سروده في العمل الرِّوائي، واتسعت ثقافة الإنسان بتراثه، ولن نبالغ إذا قلنا لا إنسان دون تراث، ولا زمن دون تراث، ولا مكان دون تراث، فهو القيمة الثابتة عند الأمة، تُبرزه في أعمالها الأدبية، لتعبر من خلاله عن وجودها، ومعالجة إشكالاتها العامة في قالب أدبي، وتربط به بين الماضي والحاضر، ويتجلى هذا في استخدام الروائيون للتراث بمختلف مسمياته، فوظفوه في رواياتهم، فجاءت طابعاً مستمداً من البيئة بمختلف مكوناتها، وحياة الإنسان بمختلف مشاربه الثقافية وعاداته وتقاليده وموروثاته، وقد وجد هؤلاء الروائيون أن التراث متعدد ومتشعب، ربما نتيجة لاتساع الرقعة الجغرافية، أو تعدد الأعراق، وتداخلها الثقافي، وقد وضع هذا التشعب المدارس الفكرية والمعرفية بمختلف مشاربها وتوجهاتها الفلسفية والفكرية والاجتماعية، وضعها أمام إشكالية التوافق على تعريف محدد ودقيق للتراث، وذلك لأن التراث في حالة تجدَّد مستمرة وفقا لعامل الزمن وتفاعل الإنسان معه وتأثيره فيه وتأثره به، وهو لا يتجدد بدلالته القومية أو الدينية فحسب وإنّما أيضا بتأثيره في الإنسان إطلاقاً، والأنسان والتراث في عملية تأثير متبادلة نسبيا وفقا للوعي الإدراكي عند الإنسان وتعامله مع التراث، فهو ينشأ في الماضي ويتغير في المستقبل وفقا لحاجة الإنسان، فلا يستطيع شعب ما أن يعيش دون الماضي، فسعد يقطين يرى أنّ التراث الذي وصل إلينا ما زال يمتد فينا، ويشكل وعينا ويتحكم في تفكيرنا، يحضر بأشكال متعددة في مخيلتنا وذاكرتنا، يتجلَّى بصورة مختلفة في تصرفاتنا وتعبيرنا وطرائق تفكيرنا، ومهما حاولنا القطيعة معه تظل خطاطته وأنماطه العليا مترسخة في الوجدان ومتركزة في المخيلة، ومن خلال هذا التحول الزمني للتراث، وعملية إدراك الإنسان له، برزت إمكانية وضع تعريف ثابت له أشبه بالمستحيل، وعلى الرغم من ذلك برزت كثير من التعريفات تشترك في انتمائه للزمن الماضي بمختلف مستوياته، وحضوره المادي والمعنوي في حياة الشعوب، وارتباطه بها في حاضرها ومؤثرا في مستقبلها، فهو عند محمد عابد الجابري يعني الجانب الفكري في الحضارة العربية الإسلامية، العقيدة والشريعة، اللغة والأدب، والفن والكلام والفلسفة، والتصوُّف، بينما يرى حسن حنفي أنَّ التراث هو كلُّ ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، فهو إذن قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات.
إنّ الرواية كجنس أدبي وجدت اهتماماً كبيراً من الكتاب، نجدهم في اجتهاد دؤوب في تقديم أفكارهم في قالب فني، يجذب اهتمام القارئ، ويكون متنفساً له من خلال توظيف الأحداث التي يعايشها المجتمع، حيث تصاغ في نص سردي وفقا لرؤية الكاتب الفكرية، وصولا بها إلى حل لإشكالية ما، وبما أن الرواية تحتوي على عناصر سردية محددة من ضمنها المكان والشخصيات والزمن، نجد أن التراث حاضر في تلك العناصر، وكثيراً ما وظَّفه الروائيون كوسيلة للتعبير رؤيتهم وأفكارهم في أعمالهم السردية، مبرزين بهذا الاستخدام كثيراً من القيم التي ترتبط بالمكان والشخصيات من الناحية الفكرية والدينية والمجتمع برمته، وقد علل معجب العدواني هذا بأنّه لا يمكن بناء حاضر لا يقوم على أسس ماضية، فالاستغناء عن التراث كأنّنا نقطع الشيء من دون أصله، لذلك الموروث لا نعني به القديم أو الأشياء المنسية، وإنّما القدوة التي تدفعنا لخلق حاضر أكثر مثالية، فالتراث لا يمثل ماضي الأمة فقط، بل هو حاضرها وصانع مستقبلها، وهو ذاكرتها المتقدة على مرِّ السنين، لِما يتميز به من تشعُّب يمسُّ كلَّ جوانب الحياة، ويعبِّر عن حضارتها ورُقيها، وقيمها ومُثلها العليا، والتراث بهذا المعاني صار مادة خصبة للدراسات بمختلف مشاربها الفكرية، والرواية ليست بعيدة عن ذلك، حيث نجد الروائيين أكثر حرصا على فهم دلالة المادة التراثية، حتّى يتسنَّى لهم توظيفها بالطريقة المثلى التي تخدم عملهم الأدبي، فإذا أحسن فهم التراث عندئذٍ ستكون الأرض من تحت أقدامنا صلبة ثابتة، تُلْقَى فيها ضرورات الحياة الأدبية، وتنعكس أصول حركتها بالتراث والمعاصرة بعيداً عن اقتلاع الجذور، أو اجتناب الأصول
النص الروائي- تجليات
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع