مدونة محمد أحمد همام


كورونا والحداثة: مداخل تفسيرية (1).

محمد أحمد همام | HOUMAM MOHAMED


21/04/2020 القراءات: 4105  


حلت بالعالم جائحة وبائية، أحدثت خوفا عالميا غير مسبوق، وأعادت الإنسانية إلى طبيعتها الأولى، قبل التطورات المذهلة في زمن الحداثة والعولمة؛ طبيعة أولى كانت قائمة على التضامن، والعمل المشترك، والرغبة العامة في حماية الإنسان حيثما كان. كما ذكرت العالم بهشاشة المؤسسات العالمية اليوم، وهشاشة النظام الصحي العالمي، وهشاشة الدول الوطنية، وهشاشة التصنيف المتحيز: العالم الأول، والعالم الثاني، والعالم الثالث. والأخطر أنها أوقفتنا على الأساطير المؤسسة للنموذج الحداثي(نيوليبرالي)، المبشر ب(الفردوس الأرضي)، بتعبير عبد الوهاب المسيري، والقائم على: البرغماتية، ولغة التعامل مع الواقع، ولغة الكابوي، وعالم السلع الفردوسي، والخلاص بالسلعة، والتشيئ... وسرعان ما تحول هذا النموذج إلى (الفردوس المفقود)، كما رسمت معالمه الملحمة الشعرية للشاعر الإنجليزي جون ميلتون(سنة1667) في عشرة كتب. وأهم هذه الأساطير التي بشرت (نيوليبرالية) بتحقيقها هي التخلص من الخوف! هذا الكابوس المفزع الذي ظهر اليوم، بشكل رهيب، مع فايروس كورونا(COVID-19). وبغض النظر عن مقاربات موضوع فايروس كورونا في الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي على الخصوص، من منظورات مختلفة: علمية، وطبية، وصناعية، واقتصادية، وبيئية، ودينية، وثقافية، وجيوسياسية... فكلها منظورات لها مسوغاتها، ومرتكزاتها، بل وتعبر عن طبيعة مقاربات الظواهر اليوم، وهي مقاربات عبر منهاجية، ومتعددة الاختصاصات، ومتعددة الحقول المعرفية. ونحن في حاجة إلى تقديم مداخل تفسيرية لفهم الجذور الفكرية والفلسفية لهكذا ظواهر، بعيدا عن النزعات الاختزالية والهجائية في حق هذا المنظور أو ذاك. وفي هذا السياق سننطلق في تقديم مداخل تفسيرية لظاهرة الخوف الرهيب المصاحب لفايروس كورونا، من الأطروحة الفلسفية التي قدمها الفيلسوف البولندي ذو الجنسية الإنجليزية، زيجمونت باومان، (ت 2017)، في موسوعته حول السوائل، وفي كتابه: الخوف السائل، على الخصوص. زيجمونتباومان فيلسوف بولوني الأصل، بجنسية إنجليزية، من عائلة يهودية. من الفلاسفة الماركسيين البارزين في النصف الثاني من القرن العشرين؛ ينتسب إلى المدرسة النقدية والتجديدية الماركسية. تأثر بجورج زيمل، وأنطونيو غرامشي، وأنتونوغيدنز، وروبرت كاستل،وبيير بورديو. اهتم في كتاباته الأولى، في الخمسينيات والستينيات، بالاشتراكية البريطانية والطبقات الاجتماعية وحركات العمال.تعرض للتهجير من بلاده بسبب تهمة العداء المستفحل للسامية يومذاك. واستقر في بريطانيا أستاذا لعلم الاجتماع والفلسفة بجامعة ليدز إلى حين تقاعده. اشتهر أواخر الثمانينيات بثلاثية فكرية وتحليلية قدم فيها بعض المفاهيم النظرية والتطبيقية لما سيأتي في أطروحة السوائل؛ وهو ما جسدته كتب: أهل التشريع وأهل التأويل(1987)، والحداثة والهولوكوست (1989)، والحداثة والإبهام(1991). وفي هذه الكتب تبلورت أفكاره القريبة جدا من مدرسة فرانكفورت، رغم أنه لايحسب عادة عليها، ورغم نزعته النقدية البارزة في أطروحة السوائل، وخصوصا في كتابه: الخوف السائل، الذي استفاد فيه من ميراث ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو، في كتابهما: جدل التنوير. وقد ذكر علاقته بفكرهما منذ كتابه: الحداثة والإبهام. فإذا كان هوركهايمروأدورنو في (جدل التنوير) قد أكدا أن بحث إنسان عصر التنوير عن نظام مثالي مغلق هو في حد ذاته خوف أسطوري، تحول إلى خوف بنيوي وجذري، لم يعد يتحمل شيئا ما خارج النظام. لذلك ندرك اليوم الخوف الذي ينتاب العالم من فايروس كورونا، لأنه مازال خارج النظام، وخارج السيطرة! فمجرد وجود عنصر ما، مثل الفايروس، في الخارج، هو مصدر الخوف، بل هو الخوف ذاته. في هذا السياق جاء كتاب (الحداثة والإبهام) لباومان ليقدم المعطيات الكثيرة على (أطروحة الخوف) الملازمة للتنوير وللحداثة، من خلال تحليل مستفيض ومستند على التاريخ وعلى السوسيولوجيا. ويمكن أن نعزز اليوم هذه الأطروحة بمعطيات يومية لاتنتهي، ونحن نعيش معركة مواجهة خوف كورونا أكثر من الفايروس نفسه. كما نميل إلى أن فكر باومان، وكذا فكر مدرسة فرانكفورت النقدي، واليسار الجديد، على العموم، في العالم، بحسه النقدي وخلفيته الإنسانية، وابتعاده الكبير عن الدوغمائية الماركسية القائمة على حساسية مفرطة من الأديان، والمغرقة في الشعبوية، يمكن أن يشكل هذا الفكر النقدي نقطة ارتكاز أو تلاقي مع المنظور المعرفي للفكر الإسلامي، من أجل منظومة فكرية إنسانية تقوم على الأخلاق و الفضيلة والعدل والتعايش والسلام. ألف زيجمونت باومان موسوعته المسماة السوائل؛ وتضم كتب: الحياة السائلة، والحداثة السائلة، والخوف السائل، والحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية، والأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين، والمراقبة السائلة، والثقافة السائلة، والشر السائل: العيش مع اللابديل. وكلها من ترجمة راقية وتأصيلية للأستاذ حجاج أبو جبر، وتقديمات وافية ومضيئة لأختنا وزميلتنا الأستاذة هبة رؤوف عزت، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة. ومن منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر. وتصلح بنظرنا أطروحة باومان لمعالجة التداعيات السيكولوجية للفايروس، واكتساب قدرة الفهم، ثم الوعي، ثم الثقة في النفس للتعامل مع هكذا وضعية مستجدة على حياتنا أمام الإجراءات الصحية والأمنية والسياسية الصارمة وغير المعتادة المتخذة في كل العالم في مواجهة الجائحة. (يتبع)


كورونا، الحداثة، زيغمونت باومان، الخوف، السيولة، الفكر الإسلامي.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع