مدونة صلاح عبدالسلام قاسم الهيجمي


اللّسانيّات الخطابيّة عند بافو وسرفاتي (2)

صلاح الهيجمي | Salah Abdulsalam Qassim Alhaigami


21/06/2020 القراءات: 1863  


الأستاذ: صلاح عبدالسلام قاسم الهيجمي
ويشير بافو وسرفاتي إلى أن التماسك مصطلح استحدثاه هاليداي وحسن عام 1976م، ويرصد العلاقات بين الجمل وترابط بعضها ببعض بواسطة ظواهر لسانية متعددة كالإحالة والاستبدال والحذف والوصل والتماسك المعجمي، وهو ما أعطى زخماً قوياً لعدد من الدراسات المنتظمة وفقاً لمستويات ثلاثة: جملي كـــ(دراسة الضمائر وأسماء الإشارة والعطف والتبعية)، وعبر جملي كــ(دراسة صرفيات الربط من ظروف وواصلات وظواهر الاستدلال وأشكال متنوعة من التكرار والاستئناف)، وفوق جملي كــ(دراسة الواسمات الخاصة بالنص كله مهما كان حجمه مثل (نص إشهاري قصير أو مؤلف كامل). وهذا التماسك مرتبط بالاتساق. والاتساق مرتبط بالتدرج الموضوعاتي؛ إذ يعد التدرج الموضوعاتي عاملاً من عوامل الاتساق الذريعي، والنص لا يعد متسقاً عند المخاطَب إلا إذا كان متضمناً لتدرج موضوعاتي للنصوص سواء أكانت ثابتة أم خطية أم مجزأة. وفي التنميط النّصي نلاحظ - بتأثير من أعمال آدم - تطوراً من الأنماط إلى المتواليات ومن المتواليات إلى الأجناس، وتقسّم الأجناس إلى أجناس الخطابات الأولية وأجناس الخطابات الثانوية.
ومن هذا المنطلق اقترح آدم مخططاً يلخّص صيغ تصنيف النصوص على صنفين، وهما: النص باعتباره شكلاً ذريعياً؛ إذ يدرس الخطابات في علاقاتها بالواقع. والنص باعتباره متوالية من القضايا؛ إذ ينظر في النص لذاته خارج علاقاته بالواقع، ويتم التصنيف بواسطة معيار الصلة وبحسب التنظيم المتتالي للنصيّة. وهو ما يقودنا إلى الطرازات والمتواليات التي تسعف المتكلم في إنتاج خطاباته ومقاربة النصوص.
وهذا يدل على تطور اللسانيات النصية واعتبارها جذوراً لتحليل الخطاب، وهو ما قدمته أعمال آدم المتأخرة (1999)؛ إذ قدمت اقتراحات حاسمة في نظريات اللسانيات النصية تستند إلى التمفصل الحاصل عنده مع مجال تحليل الخطاب، وصولاً إلى الإنجازات ذات الطابع الفردي، وتدقّق بين موضوعات النص والخطاب والجنس؛ فالنص موضوع مجرّد ومجسّد لفعل التلفظ، والخطاب موضوع مدمج لوسائط إنتاجه، وأجناس الخطاب طبقة ضرورية تسمح بالنظر إلى النص المندمج في حقله الثقافي ضمن تشكيل خطابي.
وهذا ما دعا آدم لاحقاً إلى مراجعة إجراءات تحليل النصوص بواسطة ما أسماها عمليات النصنصة؛ وتتم بواسطة عمليات اشتغال النص المحددة بعمليات التقطيع والربط، ورباطات المدلول، والوصلات سواء أكانت واصلات مثل (أكيد، لكن، لأن..) أم ناظمات مثل: (ثم، من جهة أخرى، في المحصلة...) والاستلزام، ومتواليات أفعال الخطاب، ورباطات الدال المتعلقة بالتكرار الصوتي والإيقاعي والمعجمي والصرف تركيبي. ويجب أن تستجيب هذه العمليات لمعطيات وتعليمات ترجع إلى التواصل والمعرفة من مبدأ كون الملفوظات نصوصاً. وهو ما يهتم به تحليل الخطاب. وينبغي لنا معرفة تاريخه وتعريفاته وآلياته وتطوراته.
ثانيًا: تحليل الخطاب
أما تحليل الخطاب فيقول بافو وسرفاتي: إن التأريخ له عملٌ جدٌّ معقد؛ لأنه ولد من تقاطعات وتطورات تمت في سياقات معرفية وفكرية خاصة؛ منها بوتقة التقاليد الفرنسية المرتبطة بالسياق الفرنسي، والتقليد الثقافي المبني على العلاقة بالمكتوب وخاصة بحضارة الكتاب والتأويل، والتقليد المدرسي الذي يفسح مجالاً واسعاً لمختلف أشكال التعليق على النص، ومجموعة من التأويلات حول الكتابة التي ظهرت خلال الستينيات في إطار البنيوية. وينضاف إلى ذلك انخراط تحليل الخطاب في تخصصات تابعة لحقل العلوم الإنسانية (تاريخ، فلسفة، علم الاجتماع، علم النفس، أدب.....إلخ).
وهذا ما يُظهر بوضوح أنه من الصعب رسم تأريخ لتحليل الخطاب، ولا يمكننا الرجوع به إلى فعل مؤسس؛ لأنه نتاج لتلاقي تيارات حديثة ونتاج لتجديد ممارسات تحليل نصوص قديمة جداً (بلاغية، وفقه لغوية، وتفسيرية......). ويبدو أن الوضع النظري في تشكل تحليل الخطاب جاء من هامش تعريف دو سوسور لعلم اللغة عندما أكد أن موضوع اللسانيات بالنسبة له هو اللغة وليس الكلام.
ولعل أقرب توقّع لظهور تحليل الخطاب هو أواخر الستينيات؛ عندما تُرجمت عبارة Discourse Analysis)) بـ(تحليل الخطاب)، إضافة إلى أن تلاقي التيارات الحديثة وتجديد ممارسات تحليل النصوص القديمة يقترب إلى هذا التوقيت؛ الأمر الذي جعل محللي الخطاب ينطلقون من مبدأ أن الملفوظات لا تقدم نفسها بوصفها جملاً أو متواليات جمل بل بكونها نصوصاً. ومن أجل ذلك ظهر تحليل الخطاب ليعالج العلاقات المعقدة مع اللسانيات نتيجة لهذا التلاقي، مستنداً على مجموعة من المفاهيم والأدوات والمناهج الخاصة التي عملت على تحويله إلى حقل تخصصي مستقل.
وبصفة عامة فإن تحليل الخطاب عند الأنجلوساكسونيين يوازي التحليل التحاوري؛ أي دراسة التبادلات اللفظية الشفهية والمكتوبة، مع التسليم بأن كل خطاب يكون تفاعلياً في الأساس. ويعرّف بأنه تخصص يدرس الإنتاجات اللفظية في إطار ظروف إنتاجها الاجتماعية. وفي تحليل الخطاب يُنظر إلى ظروف الإنتاج الاجتماعية باعتبارها أجزاء لا تتجزأ من المعنى ومن طريقة تشكيل الخطاب. ومن هنا يتميز تحليل الخطاب على اللسانيات النصية التي موضوعها العمليات الداخلية للنص، وعلى التحليل الأدبي.
ويعد تحليل الخطاب حقلاً مؤسساتياً عند (بورديوBourdieu). ومنهم من قال بأنه حقل يقوم على خلفية ماركسية في صيغتها الألتوسيرية، وانتشر في عدد من المؤسسات؛ بسبب مجاله الفلسفي الذي منحه أطره النظرية وبصفة خاصة التصورات التي وضعاها (ألتوسير وفوكو) اللذان جعلا من الخطاب مركز تأملاتهما.
وبيّن (مانغونو) في كتابه (Genēse du discours) عام 1984م أن الخطاب يولد من رحم مجموعة متماسكة موجودة في فضاء ثقافي متجانس يتجاوز التنوعات الفردية والزمانية، ويقوم على آليات مفهومية ومنهجية لتحليل الخطاب تتمثل بثلاثة تصورات رئيسة؛ الأول: التكوين الخطابي، والثاني: المساحة الخطابية، والثالث: الخطاب، وهو ما سنعرفه في الجزء الثالث من هذه المقالة.


النص، الخطاب، اللسانيات الخطابية.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع