مدونة صالح بن ناصر بن علي الخروصي


البيعتان في بيعة (2): إبهام القبول عند التعاقد

صالح بن ناصر بن علي الخروصي | Saleh Nasser Ali Al Kharusi


24/02/2023 القراءات: 1049  


من صور البيعتين في بيعة أن يبيع شخص لآخر سلعة أو اثنتين بثمن أو ثمنين من غير قطع ببيع من البيوع، أي إن قبل المشتري على الإبهام، جاء في كتاب الضياء (ج21/ص194):" ومعنى هذا النهي أن يقول البائع للمشتري:" قد بعتك سلعتي هذه بدينار نقدا إلى شهر، أو بدينار ونصف إلى أشهر معلومة"، فيتراضيان بذلك، ولا يقطعان ثمنا معلوما، ولا يتفقان إلى أجل معلوم، ولا أنه نقد ولا نسيئة، فمن فعل هذا وكان بالنهي عالما أو جاهلا فبيعه باطل، وعليه التوبة من معصيته"، وذكر ابن رشد في بداية المجتهد ثلاثة أوجه:
1- بيع مثمونين بثمنين: كأن يقول شخص لآخر: بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم أو ذاك الثوب بعشرين درهما، ويرى ابن رشد أن علة منعه عند جميع الفقهاء هي الجهالة الحاصلة فيه، إلا مالكا الذي ذهب إلى أن علة المنع سد ذريعة، قال ابن رشد في بيان وجه ذلك:" لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ أَنْ يَخْتَارَ فِي نَفْسِهِ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ، فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ ثَوْبًا وَدِينَارًا بِثَوْبٍ وَدِينَارٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ"، والذي يبدو من الدونة أن علة المنع الغبن العائد إلى الغرر، إذ جاء فيها:" فَهُوَ إنْ أَخْطَأَ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَ الْغَالِيَةَ كَانَ قَدْ غَبَنَهُ الْبَائِعُ وَإِنْ أَخَذَ الرَّخِيصَةَ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ غَبَنَ الْبَائِعَ وَهُوَ مِنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَإِنَّمَا مِثْلُهُمَا مِثْلُ سِلْعَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَهَا بِثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُحَوَّلَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ بِدِينَارٍ وَثَوْبٍ أَوْ ثَوْبٍ وَشَاةٍ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ؟ قَالَ مَالِكٌ: لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِمَا بَاعَ وَلِأَنَّهُ مِنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ"، فقد مثل للغبن في الصورة الأولى بالصورة الثانية التي هي عين المسألة هنا، ما يفهم منه أنه الغبن هو سبب المنع في جريان البيعتين في بيعة.
2- بيع مثمون واحد بثمنين: كأن يقول البائع للمشتري: بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم نقدا أو بعشرين نسيئة، وهذه الصورة هي أكثر الصور ورودا عند الفقهاء، وعلة منعه عند الجمهور الجهالة أيضا، وفصلها ابن قدامة إلى ثلاثة علل، أولها: عدم الجزم بأحد البيوع، فهو كمن قال: بعتك هذا أو هذا، وثانيها: جهالة الثمن، فهو كمن باع برقم مجهول، وثالثها: عدم تعيين أحد العوضين، فهو كمن قال: بيعتك أحد عبيدي، فهو بذلك معدود من بيوع الغرر، وخالف مالك في علة النهي، فقال بأنها سد الذريعة الموجبة للربا، يقول ابن رشد:" لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي لَهُ الْخِيَارُ قَدِ اخْتَارَ أَوَّلًا إِنْفَاذَ الْعَقْدِ بِأَحَدِ الثَّمَنَيْنِ الْمُؤَجَّلِ أَوِ الْمُعَجَّلِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ وَلَمْ يظْهرْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ قَدْ تَرَكَ أَحَدَ الثَّمَنَيْنِ لِلثَّمَنِ الثَّانِي، فَكَأَنَّهُ بَاعَ أَحَدَ الثَّمَنَيْنِ بِالثَّانِي، فَيَدْخُلُهُ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ نَسِيئَةً، أَوْ نَسِيئَةً وَمُتَفَاضِلًا".
3- بيع مثمونين بثمن واحد: كأن يقول البائع: بعتك هذا الثوب أو ذاك بعشرة دراهم، وعلة منعه الجهالة للافتراق عن بيع غير معلوم، فكانت من بيوع الغرر، غير أن ابن رشد حصر قول مالك بالحرمة هنا متى كان المثمونان من صنفين مختلفين، ومما يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر، وأما إن كانا من صنف واحد فيجوز عند مالك، كونه من الغرر اليسير، فهو من باب الخيار في الأصناف المستوية.
على أن الفروع الفقهية تكشف لنا أن غير البيع من عقود المعاوضات يجري مجرى البيع، ففي فروع المالكية إجراء الإجارة على نسق البيع، فجاء في المدونة نهي الرجل أن يقول للعامل بأن يعمل له متاعا بأجرة كذا إن قضاها بعد يوم، وكذا وكذا إن قضاه بعد يومين، وكذا في فروع الحنابلة إذ جاء في كشاف القناع أن من قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ عَلَى أَنْ تَحْمِلَ لِي مِنْهَا قَفِيزًا بِدِرْهَمٍ، وَعَلَى أَنْ تَحْمِلَ الْبَاقِيَ بِحِسَابِ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ؛ كونه مِنْ قَبِيلِ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وكذلك الأمر فيمن تزوج امرأة على أَلْفٍ إِنْ كَانَ أَبُوهَا حَيًّا، وَأَلْفَيْنِ إِنْ كَانَ أَبُوهَا مَيِّتًا، وعلته الجهالة الحاصلة بعدم علم حال الأب، وهذا منهم يدل على أن هذا المعنى من البيعتين في بيعة يجري على عقود المعاوضات الأخرى كما يجري على عقد البيع.
ومن التطبيق المعاصر لهذا صور، منها:
1- أن تباع سلعة لشخص، ويتفق الطرفان على أكثر من سعر، يتحدد بقدرة المشتري على السداد، فكلما تأخر في السداد ثبت عليه السعر الأعلى، وكلما عجل ثبت عليه السعر الأقل، وذلك كأن يشتري سيارة من أحد الموردين، فيعقدان الصفة ويأخذ المشتري السيارة على أنه إن سدد الثمن خلال سنة واحدة سيكون بثمن منخفض، وإن تأخر فسدده في سنتين فيكون بثمن أعلى، وإن تأخر زاد الثمن بحسب مدة تأخره.
2- أن تباع سلعة لعميل، ويعطى سعرين مختلفين، ومدة من الزمن يلزمه أن يحدد الثمن عند حلول الأجل المتفق عليه، وعادة ما يشترط في السعر الأقل أن يتعاقد عند الأجل ثانية مع المورد، وذلك كأن يبيع مورد سيارة لعميل، ويتفقان على سعرين مختلفين، ويمنح العميل أجلا طويلا لتحديد أي السعرين يريد، كخمس سنوات مثلا، يلزمه أن يقرر عند الأجل أي البيعتين بناء رغبته في الاحتفاظ بالسيارة، فيثبت السعر الأعلى إن قرر العميل الاحتفاظ بها، بينما يثبت السعر الأقل إن قرر ردها للمورد وشراء سيارة أخرى.


بيعتان في بيعة، غرر، إبهام


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع