أزمة التعليم الإسلامي حسب بن عاشور ج2
19/10/2020 القراءات: 1558
رؤية الشيخ بن عاشور لإصلاح التعليم
ينبه الشيخ بن عاشور في بداية عرضه لرؤيته الإصلاحية إلى أن عائقا نفسيا مهما يقف دون إصلاح التعليم في بلاد المسلمين ويتمثل في التشبث بالقديم وعدم الاستعداد لتغييره والتخلي عنه بداعي أن ما كان سائدا قد أوصل أسلافنا إلى أعلى مرتقى من النجاح وهنا تكمن الغفلة كما يقول الشيخ عن "اختلاف العصور والأجيال ذلك الاختلاف الذي تغيرت به الأسباب "
إن أبرز ما يلفت النظر في معالم الرؤية الإصلاحية للشيخ بن عاشور قيامها وفق بناء منهجي مضبوط ودقيق وواضح ونحن نعزو ذلك إلى خلفية الرجل الأصولية المتشبعة بقوانين علم أصول الفقه ،وقد بنى الشيخ رؤيته على قاعدة رئيسية لكنها كانت مضمرة في ثنايا بحثه،وهي قاعدة الدفاع الذاتي للمجتمع ،فهي القاعدة التي فسر بها اشكالية العلاقة بين التعليم والسلطة السياسية ووجد من خلالها أيضا تفسيرا لمواجهة الانحطاط والتدهور الذي قد يشهده التعليم في مجتمع ما
ونعني بالدفاع الذاتي للمجتمع ما يكتسبه المجتمع من مقومات بناء قيمي ذاتية طيلة مراحل تطوره ونموه ثقافيا و أخلاقيا وعلى جميع الصعد حتى إذا مر المجتمع بمرحلة ذبول وانهيار تصدت تلك العوامل الذاتية للدفاع آليا عن قيم المجتمع ،وهي قاعدة سوسيولوجية هامة في فهم ديناميكة المجتمعات نبهنا إليها الشيخ بن عاشور من خلال تتبعه لتجربة أهل الأندلس فهو يرى أن"الانحطاط الذي أصيب به جسم الأندلس لم يؤثر تأخرا سريعا بل كانت القوة السالفة شديدة المقاومة له "
جعل هذا الانضباط المنهجي الشيخ الطاهر بن عاشور يبدأ بحث إصلاح التعليم من خلال سؤال محوري :لماذا نسعى إلى إصلاح التعليم ؟ وهو سؤال يدل على وضوح الرؤية لدى صاحبه ،إذ تفترض الاجابة عنه ذلك أي حضورا للهدف الذي حدده الباحث لنفسه يبتغي الوصول إليه من خلال مبحثه ،وتتأكد عندنا هذه النتيجة من خلال الوقوف على أولى الاجابات التي يضعها الشيخ أمامنا إذ تكشف عن قدرة ضبط منهجي فائقة لدى الشيخ فهو يبدأ بالتدرج في الإجابة من خلال تحديد عام للغاية من التعليم فتحديد غاية الشئ يعني في النهاية توضيح سبل الوصول إلى تلك الغاية بإزالة كل العوائق وتطوير كل العوامل المساعدة على الوصول تنقيحا وتنمية ،ويرى الشيخ ابن عاشور أن الغاية من التعليم هي "العلم بوجوه استقامة الأشغال"،أي أن التعليم يمنح المتعلم فرصة لتحقيق الانسجام الداخلي بين عقل الإنسان وما يضبطه من خطط وبين ما يثمره من أعمال تنبع عن تلك الخطط أي بين التفكير والإنجاز يجعله "واثقا من حصول مبتغاه من عمله"لذلك "كان من واجب كل داع إلى التعليم أن يوضح لطالبيه الغايات التي يحصلونها من مزاولة ذلك التعليم سواء كانت غاية دنيوية أو أخروية لأن لكلتا الغايتين طلابا" فهاهنا تمييز بين غايتين للتعليم كلتاهما مطلوب من المتعلمين وسوف نفيض البحث فيهما في ما يأتي من عناصر هذا البحث لكن يهمنا هنا تحديد الشيخ الطاهر بن عاشور لأولى الخطوات المنهجية السليمة في التعليم وهي تحديد الغاية منه ،لأن من شأن تحديد الغاية المساعدة على وجود أثرها واقعا "فتلك الغاية هي التي يجتبي منها المحصّل على نهاية ذلك التعليم نفعا لنفسه دنيويا و أخرويا "
لكن بن عاشور لا يقف عند هذا التمييز بين غايتي التعليم فذاك لا يعدو أن يكون تمييزا منهجيا لتوضيح رؤية الناس للتعليم وهي رؤية يتجاوزها الشيخ بضبط غاية جامعة للغايتين أو مؤطرة لهما فسواء كانت الغاية دينية أو دنيوية فهي تندرج ضمن غاية ثالثة "أسمى و أعظم مما يبدو منها وهي انتاج قادة للأمة في دينها ودنياها " .
ولفهم هذه الغاية لا بد من الرجوع إلى رؤية الشيخ للتعليم ،فالتعليم عند بن عاشور أصل من "أصول المدنية البشرية " باعتباره يرتقي "فوق الحد الطبيعي الضروري للإنسان" وهو الحد الذي يشترك فيه الإنسان مع الحيوان،ثم إن التعليم هو الذي "يفيد كمالا في النوع باعتبار حاجات العصور والأقوام والذي تتفاوت مدارك الناس فيه " ، لذلك عده الشيخ من مميزات الأمم بل إنه قدمه على الأديان في سلم التفاضل بين الأمم ورأى أن"ما ميزالأمم بعضها عن بعض إلا العادات واللغات وما هي إلا تعلمات نشأت من أصول تعاليم البشر فبحسب ارتقاء عاداتهم ولغاتهم يكون تفاضلهم ثم يكون التفاضل بالأديان "
ويضبط لنا الشيخ مسألة أخرى على غاية من الأهمية في فهم أسباب تطور العلوم عند المجتمعات ،وهي ارتباط العلوم بحاجات المجتمع فالناس " يجعلون للعلم قيمة متى دخل في عداد حاجاتهم ولذلك تزداد قيمة العلوم بتقدم المدنية " وأمثلة ذلك كثيرة حسب ابن عاشور فهناك مجتمعات تعطي القيمة الأولى للفقيه و أخرى للطبيب وثالثة للمهندس وخال العرب شاهد قوي على هذه القاعدة قبل الإسلام حرص العرب على سلامة اللسان والتدرب على الفصاحة أما بعد الإسلام فكان القرآن وجمعه وتعلمه غاية التعليم ...
هذه المقدمات النظرية بالإضافة إلى التشخيص الذي ضبطه الشيخ لأزمة التعليم جعل رؤيته للإصلاح تقوم على جملة من الأسس نجملها في ما يلي :
ضبط الأهداف الصحيحة للتعليم "إحلال الأغراض الصحيحة المختصة بالارتقاء الأدبي والاجتماعي المحل الأول وإنزالها المنزلة اللائقة بها "
البحث عن معرفة الطرق الموافقة لدرس التعليم أي ضبط منهجية ملائمة لموضوع الدرس
التدرج في تدريس العلوم وفقا للمراحل العمرية للمتلقي مع التأكيد أن مرحلة تعليم الشباب أي المرحلة الثانوية هي من أخطر المراحل المستوجبة للإصلاح باعتبارها "المعيار الذي يرينا لماذا يصلح المتعلم لأن يناط به من العلوم في مستقبله "
الحد من تدخل السلطة السياسية في التعليم وفسح المجال للعلماء و إطار التعليم بضبط برامجه و أولويات التدريس
التخصص منعا لانتشار ثقافة الحد الأدنى لدى المعلم التي تغيّب العمق الفكري والنقد الصحيح
وجود هيئة للتدريس متفرغة تفرغا كاملا غير منشغلة بغير التعليم ضمانا للجودة والإضافة توفير مناخ من الاستقرار الأمني والمجتمعي لضمان تقدم العلوم
الانفتاح على التجارب المختلفة للأمم لمزيد الاستفادة
يتبع
اصلاح ،تعليم ،مدنية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة