الكفاية أو الملكة اللّسانيّة بين ابن خلدون وتشومسكي
أ.م. د. عماد علوان حسين | Dr. Emad Alwan Hussein
06/11/2020 القراءات: 3408
الكفاية أو الملكة اللّسانيّة بين ابن خلدون وتشومسكي
تنكشف الحضارة العربيّة عن إنجاز علميّ، برز في المغرب العربيّ إبّان القرن الثّامن، هو في الحقيقة مصطلح آخر يدلّ على مفهوم يقترب من السّليقة، ويناظره كثيرًا، وهو (الملكة اللّسانيّة)، فتظهر عند ابن خلدون العناية الفائقة بفكرة الملكة الإدراكيّة للغة جليًّا؛ لأنّها تكشف عن قدرة الإنسان على اكتساب اللّغة وحسن استعمالها من حيث مستويات الجودة والفساد.
فيحدّد مقوّمات الملكة اللّسانيّة بوصفها إدراكًا ذهنيًّا يتحرّر فعلًا واقعيًّا أثناء الحدث الكلاميّ، يقصد منه الكشف عن نوايا المتكلّم وأفكاره وأغراضه، فاللّغة بحدّ ذاتها عنده هي عبارة المتكلّم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لسانيّ ناشئ عن القصد بإفادة الكلام، فلا بدّ أن تصير ملكة متقرّرة في العضو الفاعل لها، وهو اللّسان، وهو في كلّ أمّة بحسب اصطلاحاتهم، ويمكن النّظر إلى تعريفه من نواحٍ عديدة، منها:
1. أنّ العبارة (التّركيب) حدث كلاميّ، وانعكاس لما ينشط في ذهن المتكلّم، وما يقتضيه إدراكه؛ لإيصال أفكاره وأحاسيسه إلى المخاطبين.
2. أنّ اللّغة تقسم على مرحلتين: عملية ذهنيّة إدراكيّة أوّلًا، ثمّ عملية كلاميّة نطقيّة ثانيًا، يُرَاد منهما جميعًا التّواصل والاتّصال والإفهام في بيئة إنسانيّة لغويّة معينة، فيُتَاح لمتكلّمي اللّغة الإفصاح عن مكنوناتهم للمخاطبين؛ لإتمام العملية التّواصليّة.
3. أنّ اللّغة ألفاظًا وتراكيبَ هي أداة للتّعبير والتّواصل، وهذه ملكة تنتج عن مقدرة على التّكلّم، فاللّغة قائمة عند الإنسان؛ لأنّه امتلك ملكة لسانيّة توجّه عملية التّكلّم .
في اللّسانيّات المعاصرة صدر عن عالم الرّياضيات اللّسانيّ الأمريكيّ نوام تشومسكي (N. Chomsky) صاحب النّظريّة التّوليديّة منجز معرفيّ (Epistemological)، ومفهوم علميّ، أطلق عليه الكفاية اللّغويّة (Competence)، وهو مصطلح يشير به إلى قدرة المتكلّم (المستمع المثاليّ) على أن يجري عملية جمع بين الأصوات اللّغويّة وبين المعاني في تناسق وثيق مع قواعد لغته، وكذلك ثمّة تعريف آخر، فوصفها بأنّها القدرة على بناء أنموذج لغويّ ذهنيّ مشترك بين المرسل والمستقبل، سداه الصّوت، ولحمته الدّلالة، وعلى أساسه تتمثل القواعد اللّغويّة، ويعتقد أنّ وجود الكفاية (الملكة) اللّغويّة هي من الفرضيّات الجديرة بالاهتمام في العصر الحديث التي دلّت البراهين والأدلّة المعقولة على صحّتها، وتعني أنّ هناك جزءًا ما في الذّهن مُخصّص لمعرفة اللّغة واستعمالها، وتشتمل الملكة اللّغويّة على الأقلّ على نسق معرفيّ واحد، أي: نسق يخزن المعلومات، ولا بدّ أيضًا من وجود أنساق (أنظمة) أخرى لديها القدرة على الوصول إلى هذه المعلومات، أي: الأنساق الأدائيّة، (أنساق الإنجاز)، ومن ثَمَّ يؤكد أنّ النّسق المعرفيّ للملكة اللّغويّة يُغيّر من حالته، فإنّ حالته المشتركة المحدّدة وراثيًّا لا تطابق الحالات التي يتّخذها في ظروف مختلفة؛ بسبب عمليات إنضاجيّة داخليّة، أو بسبب معطيات الواقـــــع الخارجيّ، وهو ما يسمّى بـ(اكتساب اللّغة).
وقد فرّق بين مفهومين مهمّين في اللّسانيّات التّوليديّة، هما: الكفاية (Competence )، والإنجاز أو الأداء (Performance)، فالأوّل: مفهوم ذهنيّ تصوريّ، يعالجه العقل، ويكون عملية عقليّة محضة تسبق الأداء، وتكون محفّزة له، والثّاني: مفهوم نطقيّ (واقعيّ)، يعالجه اللّسان، ويكون مسلّمة منطقيّة ناتجة عن الكفاية؛ لذلك يعتقد أنّ استعمال اللّغة، أي: الإنجاز الكلاميّ الفعليّ، كما نلحظه، لا يعكس فقط العلاقات الأصليّة القائمة بين الأصوات والمعاني المندرجة في تنظيم القواعد اللّغويّة؛ بل ينطوي على عوامل متعدّدة يسهم في عملية التّواصل والتّفاهم، إذ اللّغة عند التّوليديّن خلافًا للبنيويّين ليست ظواهر لفظيّة محضة فحسب، بل هي ظواهر نفسيّة ولفظيّة في آن واحد.
إنّ هذا التّمييز بين هذين المصطلحين يقودنا إلى اعتبار أنّ الكفاية اللّغويّة حقيقة عقليّة كامنة وراء الأداء الكلاميّ الذي يميل في الواقع بعض الشّيء عنها؛ لأسباب عائدة إلى الظّروف المحيطة بالتّكلّم، ويعطينا تشومسكي تصورًا آخر وتفسيرًا أوضح للكفاية مفاده: أنّ القوانين والأنظمة الكامنة في ذهن المتكلّم بدون وعي منه هي التي تحكم الصّورتين اللّفظيّة والدّلاليّة للجملة، فيذكر مثلًا أنّ للجمل معنًى خاصًّا تحدّدها القوانين اللّغويّة؛ لأنّ الناطق بلغة معيّنة قد اكتسب في ذهنه تنظيمًا نسيقًا لقواعد تحدّد الشّكل الخارجيّ (اللّفظيّ) للجملة، ومحتواها الدّاخليّ (الدّلاليّ)، فهذا الأنسان قد صوّر في ذهنه ما يمكن تسميته بالكفاية اللّغويّة الخاصّة، ويعتقد في هذا الجانب أيضًا أنّ الكفاية جزء منها ينطوي على معرفة القوانين والأنظمة التي تحدّد الشّكل والمحتوى معًا، فيمكن الاعتداد بالكفاية اللّغويّة، أي: معرفة اللّغة، في إجراء التّنظيم الشّكليّ المجرّد المكوّن من الأنظمة التي تحدّد جانبي الشّكل والمعنى الأصليّ لعدد غير متناهٍ من الجمل الممكنة، وقد حدّد وظيفة النّظام القواعديّ في لغة ما بأنّه هو انعكاس للكفاية التي من المفترض أن تنتج جملًا قواعديّة سليمة غير محدّدة، فيقول: (( إنّ نظام قواعد لغة ما يعكس الذّخيرة المحدودة الاعتباطيّة للقولات الملحوظة إلى مجموعة يفترض فيها أن تكون غير محدودة من القولات القواعديّة)) ، من هنا يمكن القول: إنّ الهدف الأساس للسانيّات التّوليديّة هو التّنقيب عن المقدرة اللّغويّة والكشف عن خصائصها الجوهريّة التي يشترك فيها جميع المتخاطبين بلغة ما، حيث تمكّنهم من بناء الجمل الصّحيحة قواعديًّا وفهمها فهمًا سليمًا، وإن لم يسمعوا بها من قبل، وتعطيهم القدرة أيضًا على التّمييز بين الجمل القواعديّة وغير القواعديّة، أمّا الأداء فهو نتيجة حتميّة وثانويّة للكفاية، وإذا ما أراد الباحث اللّغويّ دراسة الأداء اللّغويّ فلا بدّ من المرور أوّلًا على الكفاية التي تعني معرفة النّظام اللّغويّ القارّ والكامن خلف سلوكنا اللّغويّ.
ابن خلدون، تشومسكي، الملكة، الكفاية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
بارك الله في سعيكم
مواضيع لنفس المؤلف