مدونة الدكتور عمر محمد جبه جي


فقه التيسير في الشريعة الإسلامية

عمر محمد جبه جي | Omar Jabahji


23/08/2019 القراءات: 3041  



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد المبعوث هادياً ومعلماً ورحمةً وكافةً للناس أجمعين وبعد :
فهذا بحثٌ جديدٌ من سلسلة المباحث الأصولية المقاصدية ، والتي نهدف من خلالها إلى تأصيل المنهج الأصولي المقاصدي وتعزيزه ونشره ، هذا المنهج الذي يمثل روح الشريعة الغراء ، فهو المنهج الوسط بين الغلو والتفريط .
وفي هذا البحث الذين بين أيدينا نتحدث عن موضوع مهمٍ جداً وهو موضوع فقه التيسير في الشريعة الإسلامية .
إن فقه التيسير هو تطبيق الأحكام الشرعية بصورةٍ معتدلةٍ من غير تشدُّدٍ يُحرِّم الحلال، ولا تميُّعٍ يُحلِّل الحرام ، مع مراعاة أحوال المكلفين و تقديم الأحكام الشرعية التي حددها الشارع والمتناسبة مع أحوالهم وأزمنتهم وأمكنتهم .
إن التَّيسيرَ و رفع الحرج مقصدٌ عظيمٌ من مقاصد الشَّريعة الإسلامية ، وأصلٌ مقطوعٌ به من أصولها ، وقد تضافرت الكثير من الآيات والأحاديث على تأكيد هذا المقصد العظيم .
وقد اهتم علماء الأصول بفقه التيسير و أولوه عنايةً خاصةً عند تناولهم موضوع الرخصة والعزيمة والمفاضلة بينهما ، كما اهتم علماء القواعد الفقهية بهذا الفقه من خلال دراستهم لقواعد التيسير وتطبيقاتها كقاعدة ( المشقة تجلب التيسير ) وقاعدة ( إذا ضاق الأمر اتسع ) وقاعدة ( الضرورات تبيح المحظورات ) وغيرها من القواعد الفقهية .
إن معرفة الرخص وما يقابلها من عزيمةٍ في كل أمرٍ لاتباع ما يناسب العمل ، أمرٌ ضروريٌ لمن يفتي ويستفتي ، لتحقيق المقاصد الشرعية في التيسير على المكلفين ورفع الحرج عنهم ، وخاصةً في عالمنا المعاصر ، حيث تشتد التيارات الفكرية التي تحاول أن تجعل من فكرة الالتزام بالأحكام الشرعية معوقاً في حياة المعاصرين ، وتنتهز في ذلك وقوع بعض الناس في حالاتٍ تلائم الأخذ بالرخص ولكنها تجهلها فيكون التحلل من الحكم الشرعي هو السبيل الوحيد أمامها .
وعلى الجانب الآخر نرى بعض أدعياء التيسير والتطوير والعصرانية يحتجُّ ببعض أقوال العلماء وآرائهم المخالفة للنُّصوص الشَّرعيَّة، ويَحْتَجُّ بأنَّه قولٌ أو رأيٌ لفلانٍ من الأئمة، وهذا أمرٌ خطيرٌ؛ لأنَّ هذا القولَ مخالفٌ للأدلَّة الشَّرعيَّة التي أمر المسلم باتِّباعها، فكيف يخالفها ويأخذ غيرَها من أقوال البشر وآرائهم؟! وإذا كان هذا الرَّأيُ أو القولُ يُعَدُّ زَلَّةً لهذا العالم فكيف يَحْتَجُّ به؟! .
ومن المؤلم أيضاً أن نرى كثيرًا من أصحاب التَّساهل والتَّيسير يقعون في محظورات و أخطاء جسيمة؛ فهم يريدون تطويعَ الفتوى بحجَّة مسايرة الواقع ومواكبة تغيُّرات العصر، و منهم من ينادي بتغيُّر الفقه الإسلاميّ؛ من أجل نصرة منهجهم المتفلت ، حتَّى ميَّعوا الدِّين واستطال الجُهَّال عليه، وعطَّلوا بعضَ الحدود والأحاديث، وأصبحنا نرى فتاوى يستنكرها العوامُّ أصحابُ الفطر السَّليمة؛ فكيف بأهل العلم ، فهذا يرى جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة! وذلك يرى أنَّه لا ينبغي إقامة حدّ الرِّدَّة على المرتدِّ في هذا الوقت ، ويأتي مَنْ يزعم أنَّ ديةَ الرجل تساوي ديةَ المرأة في هذا الزَّمن ضاربًا بالأحاديث الصريحة عرض الحائط.
إن أدعياء التيسير والعصرانية لم يفرقوا بين مبادئ الشريعة التي لا يعتريها التبديل والتغيير ، والفروع التي يمكن أن توصف بهذه الأوصاف ، فأجروا على الشريعة ما لا يجري على القوانين الوضعية ذاتها ، وحملوا النصوص على غير محملها ، وجعلوا التيسير الموهوم والنفع المزعوم ضابطاً يتقلب مع الحكم وجوداً وعدماً ، وهذا افتئاتٌ على النصوص وتضييع لحق الله في التشريع .
ويأتي في مقابل هؤلاء من يغلو ويشدد على الناس ويحملهم على العزائم ، وفي ذلك تنفيرٌ لهم من الدين .
ولذلك كان لا بد لنا من خوض غمار هذا البحث والتأصيل له من كتب الأصول والمقاصد والقواعد الفقهية ، لنضع الأسس والضوابط لهذا الفقه ، ليكون سداً منيعاً في وجه دعاة التفلت والعصرنة من جهةٍ ، ويكون مناراً لطالب فقه التيسير من مصادره الأصلية ومن ضوابطه الأصولية المقاصدية .
إن هذا الفقه مهمٌ لمن يفتي الناس فلا يشدد عليهم و لا يميع الدين ، فعليه أن يبصر من يستفتونه بالحكم الأصلي الثابت عزيمةً ، وكيف يتغير ليناسب العذر رحمةً من الله سبحانه ، فالإنسان عابدٌ لله بالعزيمة ، وعابدٌ لله بالرخصة ، وما يكون محققاً لهذه العبودية في استمرارٍ وإحسانٍ مع مراعاة حدود الطاقة الإنسانية فهو الأولى بالاتباع .
كما ينبغي على الدعاة إلى الله تبصير الناس بفقه التيسير ليرغبوهم في التزام أحكام هذا الدين وعدم النفور منها ، فهذه وصية الرسول للصحابة عندما كان يوجههم إلى البلاد المختلفة دعاةً وقضاةً .


بحث فكري فقهي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع