جماليات سرد التاريخ في رواية سماهاني لعبد العزيز بركة ساكن
د. يوسف دفع الله حسين محمد | Yousif dafa alla husin mohmmed
13/08/2021 القراءات: 5391
إن الرواية كجنس أدبي تنهل من العلوم والمعالم التي تسود الحياة، ولذلك لا غرابة في أنْ تكون علاقتها بالتاريخ علاقة وطيدة، وبما أن التاريخ يتلمس الوقائع والمجريات التي حدثت فعلاً، نجد أن الرواية تعمل على خلق مساحات للخيال، لتتخطى اهتمام التاريخ بالحُكم والحُكَّام على مستوى الطبقة الأولى، وتعطي اندماجاً للواقع بالمتخيل، وتُبرز العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفقاُ لأيدلوجية الروائي، وكذلك نجد "أن الرواية التاريخية يتجاذبها هاجسان أحدهما: الأمانة التاريخية التي تقتضي عليها بألَّا تجافي ما تواضعت عليه المصادر التاريخية من قيام الدول وسقوطها، واندلاع الحروب والوقائع المأثورة، والثاني: مقتضيات الفن الروائي من قبيل نمط القصّ المفضي إلى الانفراج والتبئير على شخصية أو أكثر، وإدراج العناصر في منظور واحد، مِمّا يحقق للرواية التاريخية شرط الانسجام الداخلي الذي ينتظم مختلف مقومات النص ويجعل منه وحدة بين عناصرها تضامن كامل، وفي ظل هذا التجاذب نجد أن الروائي لا يمثل المؤرخ في نقل الأحداث الفعلية كما هي، وإنَّما يتمتع بالحرية في أن يروي الأحداث كما يجب أن تكون وفقا لأيدلوجيته، ولقد تنبه الدارسون منذ وقت مبكر إلى أن الرواية التاريخية مهما سعت إلى التوغل في الماضي تظل على صلة بالحاضر لا يمكنها أن تتملص منها، وهي رواية حقيقية أي رواية تُثير الحاضر ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق بالذات، فهي إذن عمل فني يتخذ من التاريخ مادة له ولكنها لا تنقل التاريخ بحرفيته وانما تتعامل معه من حيث هو مكون سردي داخل الفضاء الروائي المتخيل، له مدلولاته التي أوجدها التخيل فالرواية لا تتحدد بسماتها الشكلية، بقدر ما تتحدد بمدلولها، المرتبط عادة بفكر المتخيل. في تناص تاريخي روائي يرسم الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن لوحة عن الحياة في جزيرة زنجبار، التي يحكمها السلطان بقوة مطلقة، وقبضة على كل مفاصل الحياة، ويعيش في ترف باذخ بامتلاكه للجواري والغلمان والثروة، بما فيها الإنسان، وقد استطاع بركة ساكن أن يرسم صورة لشخصية السلطان سليمان بن سليم، بحيث جعلها تشابه صورة الديكتاتوريين المعاصرين، من اكتناز للثروة والغطرسة، مع خواء العقل وفساد البصيرة والبذخ المترف، في حين يعيش عامة الشعب على الكفاف والاضطهاد، وفتات موائد السلطان، الذي كان بمثابة الرَّب بامتلاكه لكل الجزيرة، حيث أعلنها صراحة، وادعى أن السماء أيضاً ملكه، عدا الرَّب الذي يقيم فيها "السلطان سليمان بن سليم الذي باركه الرَّب مؤخَّراَ، الحاكم الأبدي والأوحد لجزيرة أنغوجا وبيما وما بينهما وما جاورهما، وحسب ادعائه الشخصي فإنه يحكم كل ما في السماء ما عدا الرب، وكل ما على الأرض ماعدا الصين لبعدها الجغرافي". استطاع بركة ساكن في روايته سماهاني أن يستكشف تاريخا وقع في زمن تدور أحداثه في التاريخ حصريا في جزيرة أنغوجا، تتوزع في فضاء نصيّ بلغ خمسة وعشرين فصلاً، وقد خرج النص عن حيز التاريخ المدون، إلى حيز المسكوت عنه، فتطرَّق لقضايا الرق والاستعباد بين السادة والسكان الأصليين للجزيرة، وقد تأرجح النص الروائي بين التاريخ كما هو أحداث متراكمة في الزمن الماضي، وبين توظيف التاريخ في نص سردي يخضع إلى إعمال الخيال، أدى هذا التأرجح إلى ظهور الاختلاف بين أحداث التاريخ وأدوات معالجة تلك الأحداث في النص الروائي وفقاً لرؤية الروائي، ونلمح تلك المفارقة في توظيفه لقصة الأميرة التي باركها الرب مؤخرا وهروبها مع خادمها سندس "كانت تمتطي حمارها الخاص بينما كان يركب خلفها ليسندها ويحميها من السقوط. عبرا مع مجموعة من الثوار دغلاً صغيراً متوحِشاً، يمرون بصعوبة عبر الأشجار المتشابكة في ممرات ضيقة..." ، ثم موتها في البر الأفريقي "تحسس سُندسُ الأميرة بأنامله المرتعشة، كان جسدها بارداً، في أنفها تبَّسَ بعضُ الدّمِ القاني، على شفتها وصدرها آثار عضات أنياب الكلب، يتناثر وبر شعره منتظماً جسدها كله، بين ساقيها خيط من الدّم الجاف ... أحنى جسده على رأسها، سقطت دموعه على وجهها، وهمس في أذنها بصوت مشروخ (سماهاني)"، على أننا نجد في مذكراتها "غادرت الأميرة سالمة بنت سعيد عام 1867م زنجبار، لتتزوج التاجر الألماني الذي أحبته هاينريش رويته"، كما أنها لم تمت في زنجبار. تقوم الرواية على الأسلوب التخيلي للأحداث، وتوظيف وقائع التاريخ، أشار الراوي في المقدمة إلى مكان حدوثها "ويسرُّ الراوي أيضاً أن يسرد قليلاً عن مكان حدوث الرواية، ونشأة الحكايات بها: في العام 1652، رست سفنٌ شراعية عملاقة قادمة من عمان، على ساحل ما يُسمّى أنغوجا – في وقت ما من ظلمات التاريخ – وزنجبار حالياً، وأصل الاسم – زانج بار، أطلقه عليها بحارة من الفرس..." ، فالأحداث التي يسردها الراوي، في مجملها صراع بين السكان الأصليين لزنجبار والغزاة العمانيين، واستحواذ الغزاة على الثروة والأرض، ومعاملة إنسانها كعبد لخدمة السلطان، وبيعه كرقيق للأوروبيين. استطاع بركة ساكن في رواية سماهاني استدعاء التاريخ بكل ملامحه وتفاصيله الدقيقة، من خلال مقارباته التنظيرية في توظيف التاريخ، وقراءته التخيلية لشخصية السلطان، وابنته الأميرة، والعبد المخصي سندس خادم الأميرة، في حبكة مثيرة، وتكنيك سردي عالي، باستخدام عنصري الزمكان وما دار فيهما من أحداث، حيث تضج الرواية بالرعب والموت والعواطف الحالمة، وقد لعب الموت الاضطهاد بمختلف مستوياته دوراً بارزاً في الحدث التاريخي الروائي، وبهذا فتح بركة ساكن ثغرات جديدة لقراءة التاريخ الإفريقي من زوايا أخري، وكذلك كشف مقدار الوعي في المجتمع الإفريقي في مسيرة كفاحه ضد المستعمر وتعطشه للتحرر من حياة الرق والعبودية والاستعمار.
الأدب
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة