التزيين في القرآن الكريم،رؤية أنثروبولوجية ثقافية
سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat
31/12/2020 القراءات: 3184
تشير الثقافة_من بين ما تشير إليه_ إلى كلّ نتاجات الإنسان المادية والمعنوية التي تجاوزت فطرته،وزادت على قدراته الطبيعية التي هيّأها الله تعالى له . نحاول عبر هذه الأسطر استدعاء هذا المنظور من خلال مادة (التزيين) التي ترد في القرآن الكريم في سياقات تشجّع على مقاربتها مقاربة مفهومية ثقافية،وذلك من زعمنا أن مضامين كثيرة في الدراسات الثقافية و الأنثروبولوجية المعاصرة_ إجمالًا لا تفصيلًا_لم تكن غائبة في القرآن الكريم إذا ما دققنا النظر في آياته،كما يبدو ذلك واضحًا في مضامين مفهوم (الثقافة)و مضامين فكرة (النسبية الثقافية) على ما سيتضح بعدُ.
تولد الثقافة إثر انفعال أو دهشة إزاء طارئٍ ما يطرأ على الوجود فيهدّدُ (الجِبِلّة)،فتواجهها الجماعة بالقبول أو الردّ،وكلا الاثنين: القبول والردّ في حاجة إلى تسويغ ليُكونا مقنعينِ في نظر الجماعة التي تتشرّب تبعاتهما(=نتاجاتهما) .نعم نقول:(تسويغ) ولا نقول:(تعليل)لأنّ الثقافة قدر أعمى غير خاضع للتعليل،فأيّ تعليلٍ يُجدي إزاء هذا الكم الهائل من الإشارات والرموز الاعتباطية والاستجابات التي تبديها المجتمعات إزاء الله والعالم؟.فلكلٌّ مجتمع استجاباته التي تصدر عن رؤيته للعالم. فالثقافة لا تفسّر ،وأقصى ما في يد الباحث للإحاطة بها هو محاولة فهمها لا إخضاعها لمنطق السببية،فمدار الأمر في الحديث عن الثقافة هو القناعات التي يتمثّلها وجدان الأمة تحت ضغط (التَّزْيين)،والتزيين فعل جبريّ خارج عن إرادة الإنسان..ولمّا انعدمت إمكانات التعليل والتفسير فالأمر،إذن، نسبيّ غير قابل للجزم، كلّ ما هنالك أنّ أمة ما (جُبِلوا على_ درجوا على_ اعتادوا على _طُبعوا على _دأبهم كذا_ديدنهم كذا-أشْرِبوُا أو تشرّبوا كذا_.....إلخ) وهذا ما أشرنا إليه في مكان آخر عند حديثنا عن قوله تعالى:(و أُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم)،لأن كلمة(أشْربوا)لا تقلّ دقة و فاعلية عن مادة(التزيين)عند تقريب مفهوم الثقافة منهما.
ترد مادة (التزيين) في القرآن الكريم في سياقات تحيل على الاستعدادات التي فطر الله بها عباده ولهذا نألفها تنسبُ الى الله تعالى في حال دلالتها على كلّ ما هو ذاتيّ في الإنسان(=صبغة الله)،وهذا ما يتضح في قوله تعالى:(وَلكِنَّ ٱللهَ حَبَّبَ إلَيْكمُ الإيمان و زَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُولئكَ هُم الرَّاشِدُونَ)[الحجرات:٧]. على حين نراها تحيل على كلّ أمر محدَث زاد على تلك الاستعدادت وانحرف عن الفطرة،وعند هذا ينسب التزيين الى الشيطان:(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فصدّهم عن السبيل فهم لا يهتدون)[النمل:٢٤]ذلكم أن الشيطان هو المسؤول الأول عن إغواء الإنسان و تحسين الفواحش والموبقات في مداركه بما لا يتوافق مع فطرته واستعداداته الأصيلة.
(التَّزيين) مفردة قرآنية عجيبة تلخّص مفاهيم كثيرة في الدراسات الثقافية والاجتماعية الحديثة، خذْ _مثلًا_مفهوم (النسبية الثقافية)التي تشير إلى ضرورة عدم إطلاق أحكام قيمة مطلقة على الثقافات التي هي موضوع بحث ودراسة، فلكلّ ثقافة منطقها الذي(زُيِّنَ) في وعي حامليها ،ليبدو في نظرهم غاية في الانسجام مع الكون الذي هم(سُرَّتُه!).
وقد صاغ علماء المدرسة الأنثروبولوجية الأمريكية فكرة النسبية الثقافية للتعبير عن أن كل ثقافة لها سماتها الخاصة و المميزة. كلّ ثقافة تتسلّح بقناعات لا يرقى إليها الشكّ،وهي تنظر إلى ذاتها نظرة ملؤها الوثوق والإيمان ،ومن جملة هذه القناعات وأهمّها:النظر الى الثقافات الأخرى نظرة دونية كفيلة بأنْ تنتزع منها أصالتها و منطقيتها ،وقد أشار كلٌّ من (يوري لوتمان )و (كليفورد غيرتز )الى هذه الحقيقة: من أنّ الثقافات تسخر من بعضها البعض،كلّ منها تنظر إلى الأخرى وكأنها خليط عشواء لا رابط يربط بين عناصرها... فهكذا نظر اليونان والرومان الى الثقافات الأخرى ،خذ مثلًا كلمة(بربر)و ما تتضمنه من مضامين صريحة عن دونية من لم يكن منتميًا الى هاتين الثقافتين، ومن بعد اليونان والرومان هكذا نظر الرحالة المسلمون الى المجتمعات التي نزلوا بها فوصفوها بأوصاف غريبة،و طبيعيٌّ أن تلك الثقافات كانت تبادل المسلمين الشعور ذاته،فنحن في نظرهم لا نعدو أن نكون حاملين تلك الأوصاف والأحكام السيئة التي كنّا نطلقها عليهم.
أمَا وأنَّ كلّ ثقافة( زُيِّنتْ) في عيون حامليها المدّعين صواب النهج والشرعة،فإنّ إصدار الحكم على الآخر وتقييمه أمرٌ مقضيّ،فمن الصعب الحيلولة دون وقوع اصطدام رمزي بين الثقافات،لا سيّما المتاخمة منها ،وإزاء ذلك يطرح القرآن الكريم مشروعًا كفيلًا بتجنّب الاصطدام وتحاشيه،إنّه مشروع(الإرجاء)أي السكوت عن إطلاق أحكام جازمة تجاه الآخر من شأنها تسخين درجات العداء بين الثقافات المتعايشة و إرجاء أمر ذلك إلى الله تعالى :(كذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام:١٠٨]. ولأنّنا_بني الإنسان_مختلفون و رؤيتنا للعالم محدّدة وفق مبدأ(التزيين) ،فالدين الحقّ لا يلغي التعددية و الاختلاف،إذ التعددية والإختلاف من طباع البشر ،وطباع البشر من آيات الله ومن دلائل وجوده،وإذا ما حاولت أمّة تغافل هذه الحقيقة،فإنها بذلك تحكم على ذاتها بالضيق و احتكار الحقيقة ،فالشرائع لكي تثبت عالميتها عليها أن تؤكّد أنها من الله،ولا يتسنى لها ذلك إلّا إذا راعتْ آيات الله في عباده،وذلك بأن تحرص على التعامل مع طباع البشر على اختلاف ثقافاتهم(ولكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)[المائدة:٤٨].فهذا أدنى السبل الى تعايش الثقافات واحترام بعضها بعضًا....
التزيين_الثقافة_النسبية الثقافية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة