مِنْ جَنَى " مُعترك الأقران في إعجاز القرآن " للإمام السيوطي
الدكتور الناصر ظاهري | Dhahri Naceur
02/10/2020 القراءات: 3304
تتواتـــــــــر مشتقات مادة جسد في الاستعمال اللغوي بمعانٍ مختلفة بحسب طبيعة الاستعمال ، وتواجه الدارسَ صعُــوبــــــــــــــة حدّ الجسد وضبط تعريف دقيق له يمكّنه من تجاوز لبسٍ في ذهن العامّة مأتاه ما يجاوره من مفردات قريبة من قبيل الجسم والبدن والجرم وغيرها. وألفينا هذه المشتقات اللغوية تأتلف عند ألسنة المتكلّمين في معنى مشترك وهو الدلالة على معنى تجّمع الشيء واشتداده. فقد عرّف ابن منظور الجسد بأنّه :" جسم الإنسان ولا يقال لغيره من الأجسامِ المغتذية [..] والجسد الدم ، ويضيف كذلك بأنّ الجسد مصدر قولك جسد به الدمُ يجسد غذا لصق به ، والمِجْسَدُ الثوبُ الذي يلي جسد المرأة فتعرقُ فيه " . يذكر التهانوي في كتابه كشّاف مصطلحات الفنون والعلوم بأنّه " جوهـــــــــــــرٌ يمكن أن يفرض فيه ثلاثة أبعاد متقاطعة على زوايا قائمة " . وهكذا ، نلفي صفات القماش الجاسد إن كان شديدا يابسا مورّسا بالزعفران والصّبغ الأحمر ، فالزعفران جساد إذا حاكت حمرته حمرة الدّم المتدفّق في الجسد الحيّ. ويسمّى الدم اليابس جاسدا ، وأمّا المتحجّر منه على الأنصاب فجسدٌ. فقد حسم الخليل بن أحمد الفراهيدي الأمر بأن ذكر الجسد " لا يقال لغير الإنسان من خلق الأرض ، وكلّ خلق لا يأكل ولا يشرب من نحو الملائكة والجنّ فهو جسد وكان عجل بني إسرائيل جسدا لا يأكل ولا يشرب ويصيح ، وقوله تعالى في الآية الثامنة من سورة الأنبياء " وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام " قد تكون الآية أجلى استعمالا. وقد عكف أبو هلال العسكري في مصنّفه الفروق اللغوية يبحث الفرق بين الجسم والجرم والجسد والجسم والبدن فذكر أنّ :" الفرق بين الجسد والبدن أنّ البدنَ هو ما علا من جسد الإنسانِ ، ولهذا يقال للدرع القصير الذي يلبس فوق الصدر إلى السرّة بدنٌ لأنّها تقع على البدن ، وجسم الإنسانِ كلّه جسدٌ ... ولمّا كان البدنُ هو أعلى الجسد وأغلظه قيل لمن غلُظَ من السّمن بدين ،والبُدْنُ الإبلُ المُسمَّنَةُ للنَّحْرِ" .
إنّ الدلالة الأصل للجسدِ موصولةٌ بمعنى تجمّــــــــــع الشيء واشتداده ، وتتفرع عنها دلالاتٌ فرعيةٌ منها الكثافة والامتلاء وجمال الصورة وعنفوان اللون. بيد أنّ الجسد ظلّ في الثقافة العامة قبرا للروّح وسجنها ومصدر الشرور والآثام في مقابل الروح الخالدة ، فهو لا يعدو أن يكون تلك الكتلة المادية المحسوسة للكائن البشري المرتبطة بالعالم وتلك الصورة التي تميزه من غيره من الكائنات باعتباره فضاءً من نوع خاص ينفتح على العالم وكيانا متكاملا مع كلّ أجزائه. وهو الجانب المدنّس إذ ينبري عند بعضهم أسير الغرائز وينقلب عقبة كأداء أمام الروح التي تسعى للتّطهّر. وبالعودة إلى ما ذكره السيوطي في مصنّفه " معترك الأقران في إعجاز القرآن " نتحقّق من أمر دقيق ملاكه أنّ الشيخ قد استثمر في تفسيره كلّ ما سبق من شروح لغوية ترتبط بالجسد وتجاوز في حجاجه تلك النظرة الدونية للجسد ، فجعله " عالما صغيرا تجتمع فيه كلّ مواد الوجود الطبيعي" . فهو خلق معجزٌ ودليل قويّ قاطع على براعة الصانع ، فهو نصّ صغير داخل نصّ كبير هو الوجود كما ذكر ذلك إخوان الصفا ، فهم يرون أنّ " العالم إنسان كبير والإنسان عالم صغير " تناظر هندستهُ العالـــــــم ، فهو خلاصة عناصر الخلق لاسيما وأنّه قــــــــد نُسجَ من عناصر الماء والهواء والنّار والتّراب. وقد استقرّ عنده أنّ الجسدَ آنية من طين يمثّلُ حجّةً قوية على براعة الخالق تعالى صانعا يقهـــــرُ مخلوقاته بما يبرَأُ من كائنات من عدمٍ وعلى غير مثالٍ . فقد صوّره في أحسن صورة .وتجاوز هذا المنحى التجميعي في إيراد معاني الجسد كدأبِ أهل المعجم واللغويين ، ولجأ في مقابل ذلك إلى البحث في الأسرار الإلهية الكامنة في هذا الخلقِ بقوله : " فانظر إلى دقائق هذا الصنع الجليل وحُسنِ المعاني من ربٍّ جميل لجميع الحيوان وخصّ هذا الآدميّ بخصائص وحِكَمٍ يُعجزُ ذكرها ، وبالجملة فهذا الآدميّ هو العالم الأصغرُ وكيف لا وقد جمع الله فيه ما تفرّق في كلّ الأشياءِ " . وبالجملة فالآدمي من أكرم المخلوقات في تعديل الله صورته وتركيب جسده ، فأبان أنّ لكلّ عضو حكمةً ، ومن جنى شرحه أنّ ذكر أنّ العظام عمود الجسد ، ضمَّ بعضها إلى بعضٍ بمفاصل وأقفال من العضلات والعصبِ رُبِطتْ بها . ولم يجعلها عظما واحدا لأنّك ترجع مثل الحجر ومثل الخشبة لا تتحرّكُ ولا تجلس ولا تقومُ ولا تركعُ ولا تسجدُ لخالقك . وانبرى السيوطي يفصّل أسرار كلّ جارحة من جسد الإنسان ويستجلي أسرار الخالقِ في صنعها في منحى موسوعي يجلي عمق نظرته وسعة إطلاعه. إذ يقول :" ثم خلق الله تعالى المخّ في العظام في غاية الرطوبة ليرطب يبس العظام وشدّتها ولتقوى العظام برطوبته ولولا ذلك لضعف ت قوّتها وانخرم نظام الجسم .. ثم خلق اللحم وعبّأهُ على العظمِ وسدّ به خلل الجسد كلّه فصار مستويا لحمةً واحدةً واعتدلت هيئة الجسد به واستوت " . أمّا العروق فهي أشبه بالجداول لجريان الغذاءِ فيها إلى أركان الجسدِ، وكسا اللحم بالجلدِ ليستره كلّه كالوعاء له ثم كساه الشعر وقايةً للجلدِ وزينة في بعض المواضعِ . ونلفي الشارح يستقصي كلّ جارحة وفق منهج دقيق متجاوزا المقاربة السطحية . وأنّى يكن الأمرُ ، فإنّ الخطاب التفسيري يتخطّى عنده المنحى التعليمي إلى الوظيفة البرهانية الحجاجية يردّ على الخصومِ ويخاطب منهم العقلَ ويحملهم على الإقناع بجلال الخلقِ وعظمة الخالق الذي صنع كلّ شيء فأحسن صنعه . ويضحي الجسدُ ليس محض كتلة صمّاء بقدر ما هو برهانٌ جليّ على عظمة الخالق سبحانه وتعالى. ومن ثمّة ، فإنّ الجسد الآدميّ وما حوى من أعضاء هو خلقٌ استوى ناطقا وإن كان صامتا . فهو مماثل للموجودات ومفارق لها في آن فإن كان للسماء علوّ فللآدميّ القامةُ ، وإن كان في الفلك شمسٌ وقمرٌ فللآدميّ العينان. وإن كان له نجوم فللآدميّ الأسنان.إن كان للفلك الدوران فللآدميّ السيرُ، وإن كان للسماء القطرُ فلعين الآدميّ الدمعةُ ، وإن كان للبرق لمعةٌ فللآدميّ اللمحةُ. وإن كان للأرض الزلزلةُ فلنفسِ الآدميّ الرّعدةُ .
الجسد - الجسم - آنية -عالم - برهان
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع