مدونة البرفسيور محمد عبد الرحمن يونس
رواية "ولادة بنت المستكفي" ملحمة أسطورية و واقعية، تبدد غشاوة العين،
البروفسيور محمد عبد الرحمن يونس | professor : Mohammad Abdul Rahman Younes
21/11/2020 القراءات: 4068
لقد جاءت رواية ولادة بنت المستكفي في فاس للكاتب محمد عبد الرحمن يونس، عملا مهما، استطاع فيه أن ينفذ إلى أدق المشاعر الإنسانية، ويعاين قلقها وهمومها، و يستنزف انفعالات شخوصها لتتناثر عبر عالم رحب، تتصل فيما بينها معلنة ولادة عالم مشوّه تحكمه مملكة الخوف و القهر و الظلم الإنساني.
و قد رصد الكاتب أحداث روايته في المغرب العربي، هذا الجزء المهم و الحساس على خارطة الوطن العربي، و الذي يحتل مكانة مهمة في أعماق كل فرد عربي، و هو الشطر الذي عاش فيه الكاتب سنين طويلة.
"ولادة بنت المستكفي" صرخة عارية في وجه خطر الطغيان والاستبداد، هذه الحقيقة الماثلة والفعّالة، والقوة المستقلة القادرة على تشكيل وتضاعف بحار من الشرور. هذه الرواية عالم غريب، تغيب العدالة فيه، رأسماله كومة قوانين عفنة تحوّل العقول والعواطف آلات عمياء، تؤدي في النهاية إلى فقدان الوعي والذاكرة، بحيث تحقق ثنائية التوافق والوجود المكوم بالعدمية. عالم يكثر فيه البسطاء و الضعفاء، و تستباح أعز أشيائهم في وضح النهار، و تحت ضوء الشمس.
"ولادة بنت المستكفي" ملحمة أسطورية و واقعية، تبدد غشاوة العين، و توغل بعيدا في كشف أسرار النفس البشرية، مضيئة آفاقا جديدة ، مشكلة أخاديد من أحزان و آلام لا تنتهي .
وقد اعتمد الكاتب في روايته على شخصيات تاريخية حقيقية، "ولادة بنت المستكفي"؛ "ابن زيدون"، "عباس بن فرناس"، مستفيداً بذلك من الرمز كمادة مهمة، تتيح له حرية التحليل، وإطلاق الأحكام، موظفاً تلك الشخصيات لمعرفة العالم المعاصر، لتنتظم في سلك الزمن الممتد الذي تنهار فيه صرح الأخلاق، و تموت قدسية الأشياء، وقد ضمّن شخصياته هذه شروطاً ممتابعة من أفعال وعواطف، محللاً ظواهرها السطحية التي تختفي بين ثناياها دلالات إيجابية إنسانية، تشير إلى واقع متهدم، بفعل عوامل صادرة عن مؤثّرات خارجية ، تمتد إخطبوطا في الروح، تشلّ الفرد، و تسري في عروقه دماء العجز، وعقم المحاولة، وبالتالي فإن شخصيات الرواية، ما هي إلا صورة حقيقية لنماذج معاصرة، ربما تكونها نحن أو يكونها الآخرون، مع الأخذ بعين الاعتبار مَنْ نحنُ ومَنْ الآخرون.
ولا شكّ أنّ الكاتب امتلك جرأة غريبة في معاينة شخوصه و اقتحامها، فقد أنطقها بما يصعب النطق به، و في هذا تمرد على معقولية المعتاد، و جنوح صوب اللاتهذيب المقونن وفق كلاسيكيات معقدة، تحتاج لتحطيم بؤر تشكّلها عندما تقتضي الضرورة، و لا أعتقد أن الكاتب يقصد التهكم أو الإباحية، أو جرح مشاعر التهذيب و الذوق العام، و إذ اعتمد في بعض الأحيان على مفردات واخزة و صريحة، فلأن ذلك يعكس و اقعا مرا ومستهلكا، تبدو فيه العبارات أكثر قبولا من الواقع بحد ذاته.
إنّ المرأة في الرواية ليست عالما مجردا، أو بنية جسديّة تخضع لحالات انفعالات و هيجانات تعيق حالة التركيز و التأمل, أو بنية جسدية تخضع لحالات الدونيّة، و هي بالتالي ليست عالما أسفل، أو مجرد أهواء تنطلق من أعماق اللاشعور، لتصاب بالانحلال و التفسخ بدون ضوابط،و الجسد ليس شهوة أو رغبة أو حتى حقيقة، و إنّما هو جسر لامتداد إنساني، و مرض مشروط بتحكم بنية عليا، تفرض أقصى سطوتها، فيصبح الظلم قانونا أقوى من المقدرة على المواجهة، فيتراجع الحلم، و يستيقظ الوعي على العجز و القهر، و بالتالي فالمرأة في الرواية ليست هدفا مباشرا، أو مادة تحليلية بعينها، أو متناولا نهائيا، أو حتى تصوير لطقس ما يرضي المخيّلة و بواطن الأشياء، لكنها في الحقيقة رمز أعلى لتراكم عبثيات القانون البطريركي. ولم يحاول الكاتب إيجاد مبررات الانحراف، لأنه من المؤكد أن الظواهر اللاسوية، ما هي إلا نتائج لأسباب قائمة فعلا. و قد ترك شخصياته تتداعي إنسانيا بشكل حرّ، ومن دون أن يلجم انفلاتاتها، أو يتدخل في حدود المعقول و اللامعقول، فيمزّق هذا التغليف المعلّب و المهذّب للشخصيات، و يرتقي لحالة التنبؤ بمقدرة الإنسان على التغيير عند توفر شرطه الإنساني، فهاهي زهرة تحمل لقب ( عاهرة) لكنها تتحول بين يدي عباس بن فرناس ــ المضطهد بعلومه وأبحاثه ، و المقهور بأعماقه وبنيته الشكليّة ـــ إلى روح و فراشة تحلّق في الأعالي، لتبلغ ذروة السماء, إنّها المرأة التي جعلها القانون و العرف الاجتماعي مداسا لجميع أنواع الأحذية.
إنّها لمدينة التي تغيب فيها بوابات الحلم و الأمل و الوطن الذي تقتل فيه أنسجة الحياة، و تعدم فيه الأجنة قبل ولادتها، فطبيعي أن تبدو ملامحها التكوينية الحركية قاسية حزينة، و ربما فاجرة، بحكم زمن ينتهك حرية الفرد، و يخون مقدساته، و عند أول محاولة لمعانقة إنسانيتها الميتة، و مناجاة أعماقها الدفينة، يتفجّر داخلها شلالات حب و سحر وجمال، تنتحر عنده كل آثام الماضي، و يولد فجر جديد معلنا بداية التكوين.
و في شخصية ولادة بنت المستكفي، نستشف الإدراك الحقيقي لمعنى الوجود.. انصهارا لشعور باللاشعور لتحقيق وحدة النفس و انسجامها. هي السمو بالكيان، و الارتقاء بالإحساس و الكبرياء. هي الموجود المتصل بالكون المتحرر من أسر الأهواء. إنها عالم الأسوياء، عالم الأحرار بكل معاييره الحياتية و الوجودية، وبالتالي فهي العالم الغريب المحارب في أدق تفاصيل حياته، و الأكثر خطورة على إمبراطورية الظلم و الاستبداد. وقد حمّلها الكاتب بعدا إنسانيا أخلاقيا قادرا على البناء و التشكيل والاستمرار. إنها الرمز الذي يكشف الأسرار و الفعل المقرون بطاقة فاعلة تحاول إزالة الستار و كشف نوافذ الخلاص. و في رحلتها تتكشف معالم الرواية و دلالاتها الرمزيّة، لتتشابك أحداثها عبر شخصيات محوريّة وهامشيّة، تتداخل إنسانيا، تشتعل الأحلام، و يتوقّد العقل و الذاكرة، تبني آمال ثم تتحطم أمام جبروت الواقع و عمق الفاجعة.
إنّه الكاتب يودّعنا عند شواطئ الأطلسي، لتتلقفنا مياهه، و تحكي لنا سر الغربة و الأزمنة السوداء. إنه الكاتب يرتحل تاركا الرمال و السماء وحرية اختيار الأوسمة.
، بروفيسور محمد عبد الرحمن يونس، Professor Younes literary criticism، نقد أدبي
مواضيع لنفس المؤلف