وريقات عالم


التعليم الهندسي المصري في عيون تايوانية

طيار مهندس/ محمد الشعلان | Capt. Mehmed asch-Schaalan


02/10/2022 القراءات: 1999  


إن قضية التعليم الهندسي قضية محورية وهامة، وتعد أمنًا قوميًّا يمس كل معاقل الحياة في مصر، وقد اختلفت الآراء بين مؤيد ومعارض لموضوع التعليم الهندسي، فمنهم من يرى أن تذبذب المستوى نابع من تطور العلوم الهندسية تطورت كثيرًا، بينما التعليم الهندسي في مصر لا يجاري هذا التطور،ومنهم من يرى أن هناك فجوة كبيرة بين التعليم الهندسي والصناعة، فخريج الهندسة حاليًا غير مؤهل لمواكبة التطور المذهل في الصناعة، وبين هذا وذلك تظهر غيوم السماء لتلقي بظلالها نحو تزايد عدد الخريجين، كانتشار الهشيم في النار، حيث أن نسبة المهندسين إلى عدد السكان في مصر تتجاوز كثيرًا النسبة العالمية، التي تقدَّر بمهندس واحد لكل 200 شخص، أي خمسة مهندسين لكل ألف مواطن، بينما نسبتها في مصرتقارب تسعة مهندسين لكل ألف مواطن، فطبقًا للمقاييس العالمية، فإنه إذا كان عدد المواليد في مصر حوالي 2,5 مليون طفل سنويًا، فمعنى هذا أنه من المفترض ألا يلتحق بكليات الهندسة سنويًا سوى 22 ألف طالب فقط ، في حين أن من يلتحقون بكليات الهندسة سنويًا يصل إلى 42-45 ألف طالب؛ والذي يفوق احتياجات سوق العمل بكثير؛ مما يشكل عبء حقيقي على أواصل الدولة ومؤسساتها.

إن ملف التعليم الهندسي شائك ومعقد للغاية وقد مر بسنوات طويلة من الإهمال والتراخي، وهذا إن دل فإنه يدل عن مدى استبعاد خطة التطوير فيما مضت، لتثير حماساتنا اليوم في إيجاد الحلول، فلا أحد يستطيع فرض شيء بعينه على احتياجات سوق العمل، بل أن مراحل التطوير للتخصصات المعنية هي جزء أصيل من خطة الدولة، ففي الماضي كانت هناك صعوبة في حصر نسبة البطالة بين المهندسين في مصر، وبالكاد لاتستطيع أن تفرض على لجنة قطاع التعليم الهندسي تقنين تلك الأعداد بما لاتراه مناسباً لاحتياجات سوق العمل، خصوصًا بعد أن كان المهندس المصري له الريادة في المنطقة العربية، وتراجع ذلك كثيرًا علمًا بأن التنمية في مصر قائمة على أكتاف المهندسين، لكن ماذا لو كانت أعداد الملتحقين بالشعب المختلفة زادات بين خريجيها شبح البطالة لدرجة تهدد مهنة الهندسة في المستقبل القريب؟ وماذا لو أردنا حلًّا جذريًّا لهذه المشكلة، للتغلب على آفاتها قبل أن تعصف بنا نحو حافة الهاوية؟ من أجل ذلك لابد من العمل على تحليل المشكلة وتوصيفها والخروج بتوصيات تساعد الدولة في تضمين مهامها للخروج من عنق الزجاجة، وإيجاد قرار مناسب لحل مشكلة التعليم الهندسي.

إذا نظرنا إلى التجربة التايوانية مثلًا؛ لوجدنا أن تلك الجزيرة الصغيرة تستثمر بسخاء في التعليم وتسعى جاهدة بكل بقوة لحماية مواهبها وعقولها النيرة من الضياع. ولما لا؟ وهناك رغبة أمريكية جامحة لسرقة المواهب التايوانية من أجل تنمية اقتصادها المفتوح.

لقد استند دعم الولايات المتحدة الأمريكية لتايوان تاريخيًا إلى معارضة واشنطن للحكم الشيوعي في بكين، ومقاومة تايوان لامتصاص الصين لها. ولكن في السنوات الأخيرة، أصبح الاستقلال الذاتي لتايوان مصلحة جيوسياسية حيوية للولايات المتحدة بسبب هيمنة الجزيرة على سوق تصنيع أشباه الموصلات Semiconductors، في ظل رغبة الصين السيطرة على هذا الإنتاج الهام والحيوي ولذلك هي تسرق منذ زمن بعيد المطورين والمهندسين المختصين بهذا المجال من تايوان بإغراءات مختلفة وتستجلبهم إلى الصين.

لكن كيف أصبحت تايوان رائدة في هذا المجال حتى صارت تستحوذ على 92% من انتاج أشباه الموصلات في العالم؟ فى عام 1973 انشأت تايوان- البلد الفقير جدًا- معهد بحوث التكنولوجيا ثم قامت بابتعاث طلبة الهندسة وباحثيها إلى الخارج من أجل استكمال دراستهم في تكنولوجيا اشباه الموصلات، وفى عام 1983اقترح رئيس الوزراء التايوانى على العالم والخبير التايوانى (موريس تشانج) بالعودة لوطنه من الولايات المتحدة حيث عمل فى هذا المجال ليقود مهمة دخول مجال اشباه الموصلات لوطنه، فقام عام1987 تأسيس شركة tsmcلصناعة اشباه الموصلات برأس مال 220 مليون دولار دفعت نصفهم الحكومة التايوانية، حتى أصبحت الشركة الأولي في العالم لصناعة أشباه الموصلات والتي يعمل بها الآن خمسون ألفًا من المهندسين الموهوبين وعمال مهرة كخلية نحل لـ18 منشأة، وهى شركة توصف بأن العالم لا يستطيع الاستغناء عنها ولا بديل عنها لانها تسبق الجميع بأجيال فى مجال تصنيع أشباه الموصلات وبالأخص أنها تستخدم بكثرة في الصناعات العسكرية.

فهي صناعة تحتاج استثمارمن نوع خاص من خلال استغلال طاقات الشباب من المهندسين، لكن كيف كان ذلك؟ تايوان تقوم بتخريج في مجال أشباه الموصلات من 500 -1000 مهندسًا سنويًا بميزانية تصل إلى 300 مليون دولار/السنة بالاضافة إلى ميزانية خاصة في تطوير البحث العلمي والورش والمعامل وباقي المنشات التي تخضع تحت الاشراف السيادي للدولة، فبحسبة بسيطة نجد أن تلك الميزانية لم تكن تستهدف 500 من خريجي الهندسة، لكن استهدفت لتأسيس فرد كامل الأوصاف الفكرية والعلمية والمعملية البحتة، قادرًا على تحمل إنتاجية 1000 من أقرانه في دول مجاوره وضمان جودة العمل المنوط به بسبب توجه خطة الدولة في تايوان لتدريب وتأهيل وتوظيف هؤلاء الشباب من خريجي كلية الهندسة طبقًا لبرنامج متخصص وجدول زمني محدد، وبذلك تم استهلاك الطاقات طبقًا لاحتياج سوق العمل وتنامي التكنولوجيا في استثمار مركز تجاه عدد أقل وطبقا لمعدل الانتاج، كان هذا الاستثمار هو الأهم والأجدى والأوفر على الاطلاق، وبرغم الاختلاف النمطي والبعد الزماني والمكاني، فإن المهندس المصري كان ولا يزال هو عصب هذه الحياة ورائد المجتمع على مدار التاريخ في تنمية الوطن وبناءه على كافة المستويات والتخصصات وكذلك دوره في كافة مناحي العمل بالوطن عربيًا وأفريقيًا وعالميًا، فهو قادر على تطبيق المعرفة العلمية والإبداع لتطوير حلول للمشاكل الحياتية والنهوض بالأمم، وإن استمرار مساعي الدولة في تضميد جراح هذه المهنة يلزم قائمينه في التصدي لكل من سولت له نفسه في اجتثاث شرف هذا الواجب تجاه مقدرات هذا الوطن الغالي من المهندسين الشرفاء.. مستقبل هذه الأمة وفخرها.


التعليم الهندسي، هندسة، مصر، تايوان


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع