مدونة د.عبد الله كركيش


وقفة مع آية قرآنية تحدد أنواع التجارة مع الله

د.عبد الله كركيش. | ABDELLAH KERKECH


17/11/2020 القراءات: 8804  


بسم الله الرحمن الرحيم
وقفة مع آية!
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُور}(فاطر:29- 30).
الحمد لله المتفضل على عباده بفتوحات إيمانية، والكاشف لهم عن غموض العلم والمعرفة، والصلاة والسلام على خير البرية سيدنا محمد بن عبد الله صلاة تنفعنا في الدنيا والآخرة.
وبعد:
فإن المتأمل في هذه الآيات يجدها تضمنت ثلاث أنواع من التجارة مع الله وهي:
النوع الأول: الإقبال على تلاوة القرآن {إن الذين يتلون كتاب الله} وأي تلاوة؟
التلاوة الصحيحة؛ لأن بها يحصل التأثر، ويتحقق التدبر، ومن ثم يتحقق مراد الله من كتابه.
التلاوة باعتبارها وسيلة لذلك لا بد أن يتوفر فيها شرط الإخلاص، وحضور القلب.
فلا بد في هذه التلاوة من استشعار عظمة مَن نقرأ كلامه ورسالته...
التلاوة باعتبارها وسيلة لا بد من استجماع القلب لها وتخليصه من الشواغل.
حينما نتلوا القرٱن حق تلاوته، ونتأدب بآدابها؛ نؤمن به حق الإيمان ونتأثر به حق التأثر فيخشع قلبنا ويزداد إيماننا ونسعد به في حياتنا.
والناس في هذا النوع الأول من التجارة مذاهب، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله وكلهم إن شاء الله في الجنة كما جاء عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}، قال: "هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة".[صححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2577)].
النوع الثاني: إقامة الصلاة؛ أي إقامة؟ وأي تجارة؟
 لقد ربط الله تعالى الفلاح بإقامة الصلاة قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ () الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}(المؤمنون:1-2). والخشوع في الصلاة مظهر من مظار الإحسان فيها، ودليل من دلائل إقامتها، فليس الذي ينقر في الصلاة، أو المنشغل عنها بمحسن فيها، وليس المحافظ عليها والحريص على إقامتها كمن كانت عليه دين فأداه وأراح باله منه.
 لقد جعل الله عز وجل إقامة الصلاة من صفات المؤمنين المتقين{الذين يقيمون الصلاة} في مطلع سورة البقرة، وجعل الاستجابة لدعوتها من أسباب الفلاح قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ...وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ()} (الجمعة: 9-10 )وجعل شعار النداء إليها دعوة للفلاح ((حي على الفلاح)).
 وجعل أهلها من ورثة الجنة { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ () الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ()} المؤمنون: (10-11).
 وجعل سوق هذه ا لتجارة المربحة مع الله سوقا مفتوحة دائماً وبصفة منتظمة عجيبة حيرت العلماء في إدراك سر هذا النظام؛ خمس مرات في اليوم والليلة، وبشكل توقيفي تعبدي.
 وجعلها سبحانه وتعالى معراج المؤمنين إليه بروحهم وعقولهم يَحيون حياة خاصة يعيش لحظاتها كل من أحسن فيها.
 جعل الله لها مكانة خاصة؛ حيث فرضها سبحانه وتعالى في السماء دون سائر العبادات؛ فرفع الله شأنها؛ ليرفع من شأن المقيمين لها؛ فهي معراج المؤمن إلى ربه يعرج إليه بروحه وقلبه...؛ فهي ملجأ العبد وموطن رجائه ودعائه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» صحيح مسلم
 كما أنه سبحانه وتعالى جعل جزاء من يضيعا ويفرط فيها ويخرجها عن وقتها من دون عذرٍ شرعيٍّ؛ وادياً في جهنم أسماه غيّاً قال تعالى:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم:59)، وأخر أسماه ويْلاً { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ () الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ()} (الماعون: 4-5).
فأي تجارة هذه؟ إنها التجارة الحقيقة مع الله (تجارة لن تبور).
النوع الثالث من أنواع التجارة مع الله [الإنفاق في سبيل الله]
فإذا كان الله تعالى قد جعل الصلاة معراج العباد إليه بقلوبهم وأرواحهم؛ لتزكو نفوسهم، وتتغير سلوكهم وأحوالهم مصداقا لقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45)
فإنه قد جعل سبحانه وتعالى أيضا عبادة الإنفاق في سبيل الله تجارة مربحة معه فهو القائل سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}(سبأ:39). وهذا وعد الله ووعد الله لا يخلف كما قال تعالى: إ{ِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}(آل عمران:9).
والإنفاق في سبيل الله من صفات المؤمنين المتقين قال تعالى:{الم () ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ () الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ()}(البقرة:1-3).
والإنفاق في سبيل الله من صفات عباد الرحمن قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67)
والإنفاق في سبيل الله جهاد للنفس من الشح والبخل قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} (النساء:128)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا، وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا)) [قال الشيخ الألباني: صحيح].


وقة-آية- التجارة مع الله


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع