التعدد اللغوي ومسألة بناء الهوية في النظام التعليمي بالمغرب
محمد الصديق احمموشي | Mohamed Seddik Hmamouchi
14/08/2020 القراءات: 2401
يبدو أن المسألة اللغوية باتت أمرا واقعا في المغرب، كما أضحت من أعقد قضايا التحديث في تعليمنا وثقافتنا. فمن خلال تجربتي في التدريس لمدة عشرين سنة في المدرسة العمومية، يمكن القول بأن التعدد اللغوي أضحى أمرا واقعا بحكم تداول اللغة العربية الفصحى إلى جانب اللغة الفرنسية، واللغة الانجليزية، والأمازيغية، ومؤخرا اللغة العامية التي أصبح يراهن عليها البعض كأداة للتواصل باعتبارها لغة الأم.
كل هذه المعطيات شكلت مؤثرات تحدد وضع اللغة في المجتمع المغربي وتجعل منها ظاهرة يتداخل فيها التاريخي، والاجتماعي، والثقافي، والرمزي، والسياسي، والاقتصادي، والعلائقي، بالإضافة إلى مجالات تداولها: المحلي، الجهوي، الوطني، والعالمي. ويترتب عن هذا الأمر ضرورة تناول المسألة اللغوية بالمغرب في علاقتها ببناء الهوية المغربية وتعزيزها وتقويتها.
1- علاقة اللغة بالهوية
يصعب الفصل بين اللغة والهوية ، فكلاهما يؤثر في الآخر، قوة وضعفا. إذا قويت الهوية قويت اللغة، وإذا ضعفت الهوية ضعفت اللغة. اللغة تعبير عن الهوية طبقا للقول المشهور: "تحدث حتى أراك".
يشتق لفظ اللغة من فعل لغا يلغو ومنها اللغو أي كثرة الكلام وقلة المعنى. وأصبح سائدا اللسان، وهو اللفظ الذي يعادل langue الذي يعني اللسان أيضا. وفي علوم اللغة أصبح الشائع هو (اللّسانيا)، لا اللغويات. وهو اللفظ المستعمل في القرآن: ((وهذا لسان عربي مبين)) سورة النحل.
أما مفهوم الهوية، في استعمالاته العامة الأكثر تداولا، يدل على مجموعة خصائص يُفترض أنها أساسية، مستقرة ومستمرة عند فرد من الأفراد، على الرغم مما قد يطرأ عليها من تغيرات. وعادة ما يُنظر إلى تلك الخصائص على أنها هي التي تجعل الفرد متماثلا دائما مع ذاته، بحيث يمكن التعرف إليه من خلالها وتمييزه عن غيره. وبمفهوم آخر الهوية هي الكيفية التي يُعرّف الناس بها ذواتهم أو أمتهم، وتتخذ اللغة والعرف والثقافة والدين أشكالا له.
من هنا يتضح أن لا غنى عن اللغة في تشكيل هوية اجتماعية وثقافية، ولضمان الاندماج والتماسك الاجتماعي بين أفراد مجموعة بشرية معينة؛ وفي نهاية المطاف للحفاظ على مشاعر التضامن الوطني والانتماء إلى تراث ماض مشترك. فاللغة في نهاية المطاف هي مرآة الهوية.
2- واقع التعدد اللغوي وبناء الهوية بالمغرب
منذ الاستقلال، نهج المغرب توجها لغويا يعكس المتطلبات الآنية للمجتمع السياسي وهو يسعى للتحرر من الاستعمار مع الاستجابة للاعتبارات التاريخية والحضارية، وذلك بجعل اللغة العربية أساسية في التعليم الابتدائي والثانوي، ثم تعميمها في السبعينيات على مستوى التعليم العالي بالنسبة للتخصصات في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مع الإبقاء على اللغة الفرنسية كلغة أجنبية أولى أساسية في التعليم الابتدائي والثانوي، لتكون لغة التدريس للعلوم والتقنيات في العالي.
ومنذ العشرية الأخيرة مُنحت اللغة الأمازيغية مكانة رسمية بمقتضى الدستور، وأصبحت لغة وطنية، كما تم إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وإدراج تدريسها في التعليم الابتدائي، بينما تدرس اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية الأخرى في التعليم الثانوي كلغات أجنبية ثانية.
فالتعدد اللغوي إذن أضحى أمرا واقعا بالمغرب، إلاّ أن واقع التعدد هذا لم تفرزه سياسة لغوية واضحة المعالم ولا تخطيط لغوي، مما ينتج عنه تجميع لغوي يراكم اللغات بدون تحديد لمكانة كل لغة ووظيفتها داخل الهندسة التي تُراد للتعدد اللغوي.
لم يكن التوجه اللغوي للدولة منسجما نظرا لكونه ظل يتأرجح بين المتطلبات الإيديولوجية والسياسية التي تفرض إشهار القطيعة مع الاستعمار ولغته، مع إبراز الخط الفاصل بين السياسية الاستعمارية والسياسية التي توجه دولة الاستقلال، وبين المتطلبات الواقعية التي يفرضها التسيير الإداري من طرف أطر إدارية تلقت تكوينا باللغة الفرنسية. ولقد أوضح عبد الله العروي التناقض الباطن الذي ساد مرحلة الستينيات بعد الاستقلال بين السياسي الذي يمثله حزب الاستقلال، الذي كان يدعو في خطابه إلى التعريب، وكذا مجموعة من الشخصيات النافذة التي تلقت تكوينا بالشرق أو على صلة به، وبين الإدارة التي كانت تحبذ استقدام أطر غير معربة. يرى المفكر المغربي العروي أن هذا المعطى "يفسر إلى حد ما انحطاط النظام التربوي المغربي" .
ثمة إشكال آخر يعاني منه واقع اللغة في المجتمع المغربي، ويتعلق الأمر بصراع الخطابات التي تواكب هذا التعدد اللغوي. فهناك صراع يتعلق بوضع اللغة الأمازيغية والعربية الفصحى واللغة الدارجة، وهو صراع علني ظاهر يتجلى في كل النقاشات وفي المنتديات وفي الكتابة الصحفية. وهناك مستوى آخر من صراع آخر خفي وباطني بين هذه الدائرة واللغات الأجنبية، الفرنسية أو الإنجليزية.
هكذا إذن يأخذ النقاش حول اللغة، والذي تعكسه الصحافة والأدبيات، صيغة الدفاع عن لغة معينة دون أخرى. فحول الأمازيغية نشأت وتبلورت حركة الدفاع عن هذه اللغة للحيلولة دون تهميشها والرفع من شأنها وذلك بجعلها لغة التدريس في كل المستويات، وهناك من يجعلها اللغة الأساسية بالنسبة للهوية المغربية. كما أن دعاة العربية يدافعون عنها باسم المكون التاريخي للمجتمع المغربي وانتمائه إلى العالم العربي الإسلامي وباسم ما حققته في الواقع. ولقد برز مؤخرا تيار تتبناه بعض الصحف والشخصيات ينادي بجعل اللغة الدارجة لغة ترقى إلى مستوى التدريس.
تشترك كل الخطابات إذن في إشهار العلاقة بين اللغة والهوية. ويمكننا القول: إذا كان التعدد اللغوي بقدر ما أضحى يعكس وضعا يطرح عدة إشكالات متعددة، أحد مظاهرها الصراع السياسي حول اللغة وما يحدثه من أثر سلبي على التعليم وعلى تكوين الرأسمال البشري وعلى إنتاج المغرفة، فإنه يكرس مبدأ ديمقراطيا ثمينا ألا وهو الحق في الاختلاف وصون الحقوق اللغوية والثقافية بالمجتمع المغربي.
التعدد اللغوي، الهوية، النظام التعليمي، المغرب
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة