مدونة د. ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻠﻪ عدوي


"صدمة" كورونا.. أي ثقافة جديدة تُحضر للشعوب؟ .... 1

د. عبد الله عدوي | Assoc. Prof. Dr. Abdallah Adway


26/05/2020 القراءات: 4301  


شكلت جائحة كورونا مرحلة مهمة ومحوية على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والإدارية وغيرها، حيث ألقت تأثيراتها بظلالها على مختلف مجالات الحياة، حتى وصفت بأنها بوابة مرحلة جديدة ستغير من مسارات الحياة البشرية في خلق أنماط جديدة وتلاشي أخرى، فقيل إن ما بعد كورونا ليس كما قبله.
كورونا ليس مجرد فيروس اقتحم البيئات البشرية مخلفا أعدادا كبيرة من المصابين والوفيات، بقدر ما استطاع هذا الفيروس حمل كمّ هائل من التغيرات للبشرية، حتى اتجه الكثيرون لافتراض المؤامرات كمرد لما آلت إليه الأمور؛ بين متهم للصين بافتعال الفيروس، ومتهم للغرب ومن ورائه حيتان الاقتصاد العالمي، وعلى الطرف المقابل من أعزى الأمر لتطور طبيعي لفيروس لم يتدخل البشر في تكوينه، ولن نقف كثيرا عند تلك الآراء ولا مدى صحة ودقة أي منها، بقدر ما يعنينا التفكير في مآلات الأمور التي ستنتج عن تلك الجائحة، حتى لو بنينا على أن المرض ناتج عن ظروف تطور طبيعية للفيروس، فإن التعامل مع التبعات يحمل الكثير من التدبير البشري الذي ينبغي فهمه. فهل يمكن صناعة المستقبل من جائحة؟
في التاريخ البشري شواهد تاريخية مهمة عن تمكن البشر من تغيير مجتمعات وصناعتها من جديد، ففي خمسينيات القرن العشرين عرفت نظرية الصدمة على يد عالم النفس دونالد كاميرون، نظرية قامت على أساس محو الذاكرة المجتمعية التي تشكل ثقافة المجتمعات، بتعريض المجتمع لصدمة كبيرة تنسيه الماضي وما احتوى مخزونه المعرفي من معلومات وتجارب وقيم وثقافة، ليصبح فارغا ومستعدا لتقبل المعلومات والثقافة الجديدة المجهزة لتحل مكان السابقة، هذه النظرية طبقت على أفراد بتمويل من وكالة الاستخبارات الأمريكية في سجونها في العراق وغوانتانامو وغيرها، فضلا عن تطبيقها على شعوب في المجال الاقتصادي بهدف السماح للشركات الأمريكية العابرة للقارات بالتحكم في اقتصاد بعض الشعوب، كما حصل مع تشيلي حين دعمت الولايات المتحدة الأمريكية انقلابا فيها تبعه فوضى عارمة وارتفاعا في الأسعار...، ما أوصل الناس لحالة من اليأس، وعندها وضعت الحلول لإنقاذ البلد من هذا الوضع بتحويلها إلى اقتصاد السوق الحرة، فسادت الشركات الأمريكية العابرة للقارات ورضي الشعب بها بعد رفض، النظرية طبقت على عدد من الدول الأخرى ونجحت في تطويع الشعوب بإرادتها لإرادات القوى الكبرى، فتحولت الرأس مالية إلى مخلص للبلدان المأزومة بعد صناعة أزماتها، لتكون السيف في حقيقة الأمر وطوق النجاة في نظر الشعوب المخدوعة وحكوماتها، فغرقت في ديون خارجية لا تنفك عنها.
فكرة الصدمة وإن كانت نفسية إلا أنها مهمة في علم الاتصال، فالصور الذهنية التي تغرس لدى الإنسان تشكل مرجعه في التفكير، وتتحكم في مواقفه وتصنع سلوكه، وعملية التغيير الاتصالي في سلوك الجمهور تكون بتغيير الصور الذهنية المخزنة لدية أو بالتشكيك بها بتعريضه لصور ذهنية جديدة، لتكون نتيجة هذه العملية التأثير الاتصالي في تشكيل عقلية الجمهور، وبهذه الطريقة استطاعت حكومات كثيرة تغيير مجتمعاتها وتشكيل ثقافة مجتمعية جديدة، وبأساليب ناعمة لا عنف فيها ولا إجبار.
شكلت الأشهر الست الماضية من جائحة كورونا نقطة تحول مهمة ولافته بما حملته من تغييرات، فأنماط الحياة الجديدة التي فرضها كورونا على المجتمعات التي عزلت في بيوتها واتجهت للتكنولوجيا لتلبية وتسيير شؤون حياتها، حتى عاد التعليم إلكترونيا من خلال برامج وتطبيقات خاصة، والعمل من البيت ملاذ الكثير من المؤسسات والشركات، بل إن مراكز التسوق الإلكترونية بات حاضرها مزدهرا، حتى أنها لم تعد قادرة على تلبية طلبات زبائنها من كثرتها، وقس على ذلك.. فما الجديد الذي تحمله هذه التغيرات؟
في خضم هذه الأزمة انتشرت تطبيقات اتصالية كثيرة وجد فيها الناس ضالتهم في تسيير أمورهم وتيسير تعاملاتهم، فهنا تطبيق ZOOM ضالة الطالب الذي فرضت عليه جامعته أو مدرسته استخدامه لتلقي دروسه، أو شركته ومؤسسته للاجتماع عبره، وهناك تطبيق للتسوق وجد فيه ملاذا آمنا يقيه شر الاحتكاك مع بيئته وقاية من المرض، تطبيقات محلية ودولية كان منها تطبيق من غوغل وآبل لكشف حالات الإصابة بكورونا في العالم، تسارع ظهور هذه التطبيقات أكثر من ذي قبل، فبات يحرص كل صاحب مصلحة على امتلاكها لتكون أداته في خدمة زبائنه، من هذه التطبيقات العالمية المملوكة لشركات عملاقة، ومنها القطرية المملوكة لدولة ما، ومنها الفردية التي تعود لأفراد عاديين، لكن النتيجة المهمة هي زيادة المخزون المعلوماتي للمستخدمين والمسمى بالبيانات الضخمة Big Data، فصحيح أن التطبيقات كانت منتشرة سابقا وبصورة كبيرة وأن الحديث عن البيانات الضخمة ليس بالجديد، إلا أن هذه الأزمة زادت من استخدام الناس للتطبيقات الإلكترونية مع اتساع وقت الفراغ، فضلا أن كثيرا ممن لم يكونوا يستخدمونها باتوا إما مجربين عليها لغرض العمل أو الدراسة أو أكثر تقبلا لها لعموم استخدامها ومجاراة لمجتمعهم.
يتبع 2


البيانات الضخمة Big Data- الصدمة- كورونا - ثقافة جديدة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع