مدونة د. ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻠﻪ عدوي


"أم هارون ومخرج 7".. دراما التطبيع أم دراما الواقع؟

د. عبد الله عدوي | Assoc. Prof. Dr. Abdallah Adway


01/05/2020 القراءات: 4152   الملف المرفق



مع إطلالة رمضان من كل عام تحمل لنا بعض الفضائيات العربية مفاجئات جديدة في باقة أعمالها الدرامية، وفي السنوات القليلة الماضية ظهر في جملة ما تعرضه الدراما تناولها لليهودي الذي كان يعيش في الحارات العربية، فمن المسلسل المصري "حارة اليهود" الذي عرض عام 2015، إلى المسلسل السوري الشهير "باب الحارة" الذي استحدث في جزئه السابع قصة حارة اليهود، فالمسلسلان استحداثا صورة جديدة لليهودي في الدراما العربية مباينة لما درجت عليه في الأعمال الدرامية السابقة، فتناولا البعد الإنساني والواقع الذي كان يعيشه اليهود في الشام ومصر وحاراتها، وصولا لما تعرضه بعض الشاشات العربية اليوم من مسلسلي "أم هارون" الكويتي، ومسلسل "مخرج 7" السعودي.
التحولات في الدراما العربية تبدو واضحة إذا ما تناولنا جملة المسلسلات الحديثة التي أدخلت اليهودي في معالجتها، ففي سنوات ماضية كانت تتجه المسلسلات المصرية لإبراز التفوق المخابراتي والعسكري المصري على الاحتلال الإسرائيلي، وإنجازات المخابرات في اقتحام الحصون الإسرائيلية ووربها مع الموساد من خلال جواسيسها، فكانت مسلسلات كـ "دموع في عيون وقحة" الذي أنتج عام 1980، ثم مسلسل "رأفت الهجان" المنتج عام 1987، بل إن هذا النهج استمر حتى بعد الدخول المصري في عملية السلام مع دولة الاحتلال، فعرض مسلسل "العميل 1001" عام 2005، و مسلسل "الزيبق" عام 2017، وحتى مسلسل فرقة ناجي عطا الله الذي عرض عام 2012، والذي مثل فيه عادل إمام دور ضابط مصري يسرق بنكاً إسرائيلياً بصورة كوميدية متأثرا بمشاهد العنف الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، كل هذه المسلسلات وغيرها كانت تعزز اتجاها واحدا هو أن إسرائيل عدو للعرب، وتجعل من الصراع أساسا يحكم العلاقة مع الإسرائيلي.
في السنوات الأخيرة تغيرت المعادلة، فباتت الدراما تأخذ مسارا آخر، فبعد أن كانت الاحتجاجات الإسرائيلية سيدة الموقف من المسلسلات العربية، باتت إسرائيل وإعلامها أول المحتفيين بهذه المسلسلات، بالرغم أن مضامين المسلسلات الجديدة لا تعدو كونها تمثيلا لواقع معاش كان اليهود يشكلون فيه جزءا من المجتمع العربي في دول عربية كثيرة، فلم تكن انحرافة المسلسلات الجديدة قوية لدرجة تمجيد إسرائيل أو الدفاع عنها، فهل بات نقل الواقع وتصويره انحرافة للدراما العربية؟ أم أن الدراما هي مرآة للواقع؟
كثيرا ما تردد عبارة أن الدراما ما هي إلا مرآة وانعكاس للواقع المعاش في الأوساط الفنية، فقصص الدراما وأفكارها هي وليدة الواقع الذي يغذي كتاب الدراما بالأفكار، ومن هنا يبرر صناع الدراما أعمالهم أمام جمهورهم، ويبرر الممثلين المشاهد والأدوار التي يقومون بها، فلا غرابة أن تطلع علينا بطلة "أم هارون" لتكشف حسن نواياها وتمثيلها لدور واقعي وقصة حقيقية، نافية أي هدف تطبيعي لمسلسلها.
الدراما ليست تمثيلا للواقع في الأعمال الدرامية حتى التاريخية منها، بقدر ما هي صناعة لواقع يرسمه بدقة كاتب السيناريو وفق إملاءات تضع له أهداف محددة، فيسعى لتحقيق هذه الأهداف وفق حسابات درامية معقدة، يختار المضامين والتصورات والمشاهد التي تحقق أهدافه، لذا فالدراما تمرد خفي على الواقع يتجه لتزيين بعضه وتشويه بعضه الآخر وفق ما يريده القائم على العمل، فالواقعية في الدراما أمر مستحيل نظرا لعدم توثيق النصوص والأحداث بصورة دقيقة، فضلا عن الضرورة الدرامية في خلق البيئة المناسبة للعمل الدرامي والمنسجمة مع عناصر البناء الدرامي، فالتاريخ إذ ينقل لنا مقتطفات من سير الشخصيات والأحداث تتطلب الكتابة الدرامية صناعة واقع يحاكي تلك المعلومات ويتقارب معها، ومن هنا فإن الضرورة الدرامية تجعل من النص التاريخي عجينة بين يدي كاتب السيناريو يعيد تشكيلها وفق رؤيته، لذا فإن تمثيل الواقع أمر نسبي لا جزم فيه.
لو افترضنا أن المسلسلات العربية التي ذهبت لعرض وتمثيل هذا الواقع الذي كان اليهود يشكلون فيه جزءا من النسيج العربي، فهل هذا التمثيل يشكل خطوة بريئة للدراما؟ أم أن لها ما بعدها؟
تعد الدراما الأسلوب الأكثر تأثيرا من بين أساليب الاتصال، بتأثيراتها بعيدة المدى وغير المباشرة التي تسعى لتحقيق أهدف على المدى البعيد، فهي ليست خطابا يريد تغييرا آنيا في الجمهور، بقدر ما تسعى الدراما لتشكيل صور جديدة عن الواقع الجديد الذي تسعى لصناعته، وعملية خلق الصور الذهنية في عقل المشاهد العربي تحتاج وقتا طويلا من الضخ وتكثيف الصور، وهي عملية تدريجية نظرا لكم الصور المضادة التي غرست في مخزونه المعرفي سواء من المشاهد التي عرضتها أعمال درامية سابقة تكشف بشاعة الصهيوني الذي يمارس الإجرام في فلسطين، أو مما نقلته وسائل الإعلام من أخبار الاعتداءات على الفلسطينيين، لذا فعملية التحول تبدأ في بث الصور الجديدة ومن منطلق إنساني واقعي، وصولا لمرحلة تتساوى فيها الصور الذهنية الإيجابية مع السلبية، وما يتبعها من تحول لدى الفرد في مواقفه بعد سلسلة تساؤلات منطقية يسعى للإجابة عليها في داخله، ومن ثمة يتم الانتقال لمرحلة التغيير السلوكي لدى الفرد العربي الجديد.
تمثيل الواقع ما هو إلا عذر يكشف عن قباحة الذنب الخفية التي تخبئها هذه الأعمال الدرامية، وما هي إلا تجميل ستظهر عورته لاحقا، "فأم هارون" ليس مطلوبا منه مهاجمة المقاومة الفلسطينية ولا الدفاع عن إسرائيل، بل على العكس يكفي أن يظهر صورة جيدة عن اليهودي-وليس الصهيوني الإسرائيلي- الذي يعيش في الكويت، بل ولا بأس أن يظهر معارضته لإسرائيل والمشروع الصهيوني، فعملية التغيير بعيدة المدى لا تتطلب في هذه المرحلة أكثر من ذلك، فتحقيق هذه الخطوة تعد إنجازا لدعاة التطبيع، فهي تضع القناعات السابقة محل شك لدى المشاهد العربي، ويكفي أن يصل بتفكيره أن اليهود لم يكونوا سيئين، ومن الطبيعي أن يبدأ الخلط الداخلي لدى هذا المشاهد بين صورة اليهودي الطيب والمواطن الجيد الذي كان يحسن الجوار، وبين حفيده الذي يعيش الآن في إسرائيل، لتمضي تحسين الصور الذهنية وقبول هؤلاء الأحفاد.
الدراما ما هي إلا صناعة نماذج تمثلها الشخصيات لتحفظ صورها لدى المشاهد الذي يستحضر هذه الصور لاحقا ....


الدراما العربية التطبيع


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع