الواقع الفلسطيني والسقوط في أُمنية "نحو صفر صراع"
د. عبد الله عدوي | Assoc. Prof. Dr. Abdallah Adway
20/12/2021 القراءات: 3120
عندما نجلس أمام شاشة التلفزيون باحثين عن فيلم مناسب نشاهده، تشدنا بعض الأفلام أكثر من غيرها، نعتقد أن ذاك الفيلم أجمل من غيره وفيه قدر من الجذب يفوق ما نعزف عن مشاهدته. هذه النظرة السريعة لحالنا أمام كمّ الأفلام المعروضة يعبر عنها في لغة الدراما بحجم واستخدام "الصراع" في الفيلم، وقوة الحبكة القائمة على خلق صراعات بين شخصيات الفيلم، وتضمنها أزمات ينتج عنها توتر المُشاهد، وبالتالي الجاذبية نحو العمل الدرامي.
كما قيل "الحياة دراما"، مليئة بـ"الصراعات" التي تمر على الإنسان في حياته اليومية ومعاملاته مع الآخرين، ومفهوم الصراع كمصطلح درامي ينعكس في واقع الحياة على كل حدث غير طبيعي، بدءاً من مشهد عبوس مُمثل، وصولاً إلى حالة قتل وما شابهها. والحياة البشرية مليئة بالصراعات بين الناس على تفاوت في حجمها وشكلها ونوعها، لكنّ الصراع ثابت ومتأصل في حياتنا مع أنفسنا في التفكير الذاتي، ومع من نحب ومن نبغض، ومع الاحتلال، وداخل الأسرة الواحدة، والحزب الواحد، وبين الحزب والأحزاب الأخرى... والقائمة تطول بلا حصر.
لذا، فالصراع وإن حمل في أذهاننا مفهوماً سلبياً، إلا أنه في حقيقته صحي (من واقع المفهوم الدرامي له)، فكما قيل "المشاكل ملح الحياة"، ولا تطاق حياة خالية من المشاكل، فالروتين قاتل يبعث إلى الملل، وكم من الشعوب التي وفرت لها كل وسائل الراحة والرخاء ارتفعت فيها نسب الانتحار! لذا يسعى الإنسان إلى البحث عمّا يملأ فراغه، ويشغل ذاته بقضية تعوضه عما فقده لينخرط في "صراع".
مرت على ساحتنا الفلسطينية مراحل كان الاحتلال طرف الصراع الأبرز الذي يجمع الفلسطينيون على عدائه، فشكّل صراع شعبنا معه عامل جمع لشتات أفكاره وتوجهاته وعناصره نحو هدف واحد، فتلاشت أو تراجعت الصراعات الداخلية أمام الصراع الأبرز والأهم، وهنا استحضر كيف تحول الخلاف بين الفصائل الفلسطينية قبيل الانتفاضة الثانية إلى تعاون وشراكة في التضحيات والمواقف، وتراجعت الصراعات القائمة بينها. لكن، مع مرور الوقت تراجع الصراع مع الاحتلال، وعادت الصراعات الداخلية إلى الواجهة، وتوجت مرحلة الانقسام منتصف عام 2007 هذا الصراع ليدخل مرحلة جديدة وشرسة بين الأطراف المتنافسة.
فهل "الصراع" داعمة بناء أم معول هدم؟؟
منذ عام 2007 أضحت الضفة الغربية مع طرف وغزة مع طرف آخر، وكل طرف يستحوذ على منطقته الجغرافية محاولاً حسم صراعه مع الطرف الآخر، ظناً أنه يتخلص من خصم يؤرقه، وأن مدينة أفلاطون ستقام على أنقاض منافسه بالاستفراد بالسلطة، هذا ما قد يتبادر إلى ذهن كل من يفكر في الاستقرار ويبحث عن راحة البال، لكن الواقع خبأ أخطر مما يرجى؛ فغياب المنافس وتراجع الصراع ينعكس حتماً أشكالاً جديدة من الصراعات التي لا تستقيم معها الموازين ولا تبعث إلى الاستقرار المنشود، فغياب المنافس في الضفة الغربية انعكس صراعات داخلية داخل السلطة ومن ورائها الحزب الحاكم، وقد كشفت التوجهات داخل هذا الحزب عن حجم الصراعات القائمة، والتي كانت سبباً في تأجيل الانتخابات، لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، فأزمة الصراعات الداخلية تتزاحم وتتزايد وتمتد بصورة كبيرة داخل أروقة جديدة في المنظومة الحاكمة، والتي تأخذ منحى خطيراً قد يقود إلى مزيد من الصراعات التي بدت معالمها واضحة وأطرافها واضحين وهم المتأذين من ممارسات الثلة الحاكمة، وشرائحهم موزعة على الجمهور الفلسطيني العام والمنافس، بل وعلى شرائح الموالاة المتضررة أيضاً.
الواقع الذي تشهده مدن الضفة الغربية من تصاعد المواجهة مع السلطة، وتصاعد الاعتداء على المواطنين من جهة أخرى، وزيادة جرائم القتل والمشكلات الاجتماعية التي تعدت حدود المألوف والمعقول، كلّها مؤشرات على حجم الاحتقان الذي وصل إليه الشارع طوال السنوات الماضية. كما أن مشهد الجامعات والمشكلات التي شهدتها ليس إلا في ذات السياق الذي نتحدث عنه، فالأزمات التي خلقتها السلطة الوطنية مع الشارع أضحت تتصاعد وتأخذ شكل التأييد لأي خصم لها ليس بالضرورة انتماءً وتأييدا له بقدر ما هو احتقان عليها.
استمرار الصراع مع المنافسين من شأنه توحيد الجبهة الداخلية وجعلها صفاً واحد سواء للعائلة أو الحزب أو...، ومن قبل قيل "أزمة البحث عن عدو" يحقق الوحدة الداخلية، لذا فالبحث عن خصم أو منافس هو تكتيك يلجأ إليه العقلاء من السياسيين، حيث يدركون كيفية إدارة الرأي العام باحترافية وبالبحث عن المنافس حين غيابه، بل وإحضاره وتقويته وصناعته إذا لزم الأمر وليس استئصاله، فإقصاء الخصم حتماً ترتد على الفاعل، لا سيما وأنّ ذلك جاء في الضفة الغربية متزامناً مع إيصاد الأبواب أمام الصراع مع الاحتلال، وهي العلامة الفارقة بين الضفة وغزة في هذا الأمر، والتي استفادت من الصراع مع الاحتلال والحروب والحصار في رص الجبهة الداخلية، لذا بدا المشهد القائم في الضفة عبارة عن احتقان وأزمات تبحث عمن تنفجر في وجهه، وبالرغم من كل هذا، فإن الثلة الحاكمة لم تع المعادلة التي سقطت في اختبارها عندما سعت نحو معادلة "صفر صراع"، وبات يزعجها كل صوت منافس أو مخالف، وقد كان الأولى أن تكون المعادة هي الصراع ببعده الشرس مع الاحتلال وببعده الضروري مع المنافس، حينها كان عمر الفاعل يطول وتتماسك أركانه.
• مقال الرأي هذا يرتكز على المفهوم الدرامي لمصطلح "الصراع"، وليس بالضرورة أنه العامل الوحيد الذي يرد إليه حال واقعنا الفلسطيني.
الدراما الصراع
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة