مدونة صادق عباس هادي الطريحي


اللّغةُ وسلطةُ اللّغةِ، رؤية عامة

صادق عباس هادي الطريحي | Sadiq A.Hadi


14/02/2023 القراءات: 1489  


قُدمت للغة تعريفات كثيرة جدًا، فمثلًا يعرفها ابن جني ( 392 ه) بـ " أنّها أصواتُ يعبر بها كلّ قوم عن أغراضهم" وربما يمثل هذا التعريف وصفًا خارجيًّا للغة، لا ينفذ إلى كلّ خصائصها، وعملها، مع ما به إشارة إلى عملية التواصل بين الناس. ويعرف فرديناند دي سوسير (1916) اللغة بـ " نظام من الإشارات أو العلامات اللغوية المرتبطة بمشير صوتي لغوي (الدال) يتحد مع تصور ذهني (المدلول) وهو الشيء المتحدث عنه أو المشار إليه، والعلاقة بين الدال والمدلول، علاقة رمزية اعتباطية" إذْ ربطَ دي سوسير بين اللغة وعلم النفس الاجتماعي، فقال في كتابه " كلّ ما في اللغة إنّما في جوهره نفسي، بما في ذلك مادة اللغة، ومظاهرها الآلية. " وقال أيضًا، إنّ مركز اللغة في الدّماغ هي منطقة بروكا، الموجودة في الجزء الأمامي من الجانب الأيسر من الدماغ، وأيّ خلل بها يؤدي إلى اضطرابات في الكلام أو الكتابة، ويؤكد دي سوسير أنّ اللغة ملكة حقيقية، تؤديها حركات الأعضاء، وتتحكم بها ملكة عقلية عامة، ويرى دي سوسير أيضا، أنّ الأعمال الفسيولوجية التي تنتج اللغة، مثل الحبال الصوتية، والقوانين الفيزيائية تقع خارج نطاق الفرد. ويخلص الباحث إلى أنّ للغة سلطة فسيولوجية، تؤثر في مستعملي اللغة في حالتي الإنتاج والاستقبال.
لكن العالم اللغويّ الشهير نعوم جومسكي، قدّم تعريفًا مختلفا للغة في كتابه (البنى النحوية) الذي صدر في العام 1957، وهو الذي أنشأ نظرية النحو التحويلي. فعرّف اللغة بـ " أنها مجموعة متناهية أو غير متناهية من الجُمل، كلّ منها متناهٍ في الطول، ومكونة من مجموعة من العناصر المتناهية ".
ومن الواضح أنّ هذا التّعريف يقدم صورة مختلفة جدًا للغة، فهو يَشمل أشياء كثيرة إلى جانب اللغة الطبيعية، خلافًا للتعريفات الأخرى، فاللغات الطبيعية كلُها على وفق جومسكي في هذا التعريف، سواءً في أشكالِها المنطوقة أو المكتوبة لغات، من خلال ما يأتي:
إنّ في كلّ لغة طبيعية عددًا متناهيًا من الأصوات، وعددًا متناهيًا من الحروف في أبجدياتها، هذا على افتراض أنّ لها نظامًا أبجديًا للكتابة. وأنّنا نستطيع أن ننظر إلى أيّة جملة في اللغة، على أنّها سلسلة متناهية من هذه الأصوات أو الحروف، على الرّغم من احتمال وجود عدد غير متناه من الجُمل المتمايزة في اللغة. واللغة في نظرية جومسكي التحويلية، نظام فطريّ كامن في عقل الانسان منذ الولادة يتحكم فيه جهاز وهمي أطلق عليه Language Acquisition Device ويستطيع الانسان بوساطته، عن طريق عدد قليل من الجمل التي يسمعها في لغته أنْ ينتج، أو يولد عددًا غير محددٍ من الجمل الأخرى التي لم يسمعها من قبلُ،
ويمكننا القول الآن، إنّ اللغة التي هي وسيلة للتفاهم، وتبادل الأفكار، تتألف من عدد لا متناه من الكلمات والجمل، ولها وجهان، وجه شكلي، ووجه وظيفيّ، فالوجه الشكلي هو أنّ اللغة مجموعة من الأصوات تمثل الوحدات اللغوية الصغرى، وباتحادها مع بعضها، تشكل الكلمة، وباتحاد عدّة كلمات تتشكل الجملة. تسمى قواعد اللغة، تحدد الاتحادات المسموح بها، صوتيّا، وصرفيًا، ونحويًا. أما الوجه الوظيفي للغة فهو مهارة اجتماعية ترضي حاجات الفرد والمجتمع، وهي ضرورة حياتية تفوق في أهميتها كل الأنظمة الاتصالية الأخرى،
ويواجهنا الآن سؤال مهم: هل اللغة نظام مفتوح أم مغلق؟ وفي الواقع أنّ اللغة نظام مفتوح ومغلق في الوقت نفسه، فهي نظام مغلق من الناحية الشكلية؛ لأنّ قوانين القواعد لغوية بحتة، لا تتأثر بالعوامل الشخصية أو البيئية أو الاجتماعية. لكنّ اللغة نظام مفتوح من الناحية الوظيفية، أي أنّها جزء من الحضارة، وأنّ تعلم لغة ما، يعني تعلم صحتها الاجتماعية التداولية.
وتتحدد سلطة اللغة من خلال العناصر السّياقية، وسلطتها على المستعمل اللغوي في عملية الخطاب، وتتضح سلطة اللغة على المرسل في أنه يستطيع استعمال الكثير من الأدوات، إلا أنّ بعضًا من الأفعال لا ينجزها إلا باستعمال اللغة، بوصفها أداته الرئيسة، وتكمن سلطة اللغة بأنظمتها وقواعدها التي تلزم الفرد على التقيد بها، والاستجابة لقوانينها، وإن احترام هذه الأنظمة المكتسبة تمكن الفرد من كفاءته أو قدرته اللغوية. أما الخروج على هذه الأنظمة يجعل الخطاب، نوعا من التعمية، وخاصًا بين طرفين. وربما يبقى في حيز طرف المنتج فقط!!
ويرى ياكوبسن أنّ اللغة سلطة تشريعية، قانونها اللسان، ونحن لا نلحظ السّلطة التي ينطوي عليها اللسان؛ لأننا ننسى أنّ كلّ لسان تصنيف، وكل تصنيف ينطوي على نوع من القهر، الذي يعني في الوقت نفسه التوزيع والارغام.
ومن اللسانيين المحدثين الذين توصلوا إلى سلطة اللغة، هو الدكتور عبد السلام المسدي، في كتابه (السياسة وسلطة اللغة) فقد توصل إلى أنّ اللغة سلطة في ذاتها، وقد أضحت الآن هي النواة المركزية الجديدة للكون، وأنها مركز الفعل الذي يتحول الإنسان فيه من واقع الإدراك والتأمل إلى ساحة تغيير ما يتأمل فيه. وتوصل أيضا إلى أنّ لكل لغة من لغات البشر قوانين تنتظمها، وتشد أوصالها بحبل متين لا تراه العيون المجردة، كالأسلاك المعدنية التي تتخلل الأسمنت المسلح، بحيث تصير تلك القوانين أعرافا يتخاطب بها أفراد المجموعة المنتسبين إليها بشكل أصليّ، أو بشكل طارئ، وفي القوانين العامة ثمةَ قوانين أقلّ منها عمومية تجعل للكلام الأدبي ترتيباته الخاصة، وللكلام القانوني حيثياته، وللكلام العلمي قواعده أيضا، وتجعل للكلام السياسي ضوابطه، وقوانينه، بحسب تصور المتكلم للمعايير الشائعة بين أهل ذاك الحقل الشاسع الفسيح الذي لا يخرج من تحت سقفه كائن مهما كان.


اللغة، التواصل اللغوي، السلطة اللغوية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع