مدونة محمد أحمد همام


كورونا والحداثة: مداخل تفسيرية (2).

محمد أحمد همام | HOUMAM MOHAMED


28/04/2020 القراءات: 3937  


صدرت أولى بواكر سلسلة السيولة (سنة 2000). وحملت عنوان (الحداثة السائلة)؛ وهو عنوان في الوقت نفسه يشكل(نموذجا تفسيريا) يسعى إلى إنجاز مهمة الفلسفة، بتعبير هيغل؛ أي: فهم زمن متغير، وفهم التحول العظيم في حياة الإنسانية؛ تحول من نمط حياة كان يبدو طبيعيا ومألوفا، على ما فيه من معاناة، إلى نمط جديد مفزع ومجهول، وبمعاناة أشد. نمط سقطت فيه المقولات المعرفية الكلاسيكية التي كانت تستعمل في استيعاب الحضور المعطى للوجود. فالنموذج التفسيري الذي يقدمه باومان هو حكاية هذا الانتقال الفظيع، وهو قصة العبور. وهو قصة التوسع التدريجي المتواصل للمسافة التي تفصل الظرف الحياتي الحالي عن نقطة انطلاقه. إنها قصة وضع إنساني مختلف عما ظننا نعرفه أو نألفه. هذا النموذج التفسيري يجعلنا نفهم قصة تباعد الجديد عن القديم. إنها مأساة رحلة الحداثة! رحلة نفي عناصر الميلاد، وقتل مبادئ التأسيس؛ بعبارات: (لم يعد...)، و(وعلى النقيض من...)، و(وفي مقابل...)، و(وعلى العكس من...). إن سردية الحداثة السائلة تنطلق من غياب( الصلابة)، غياب ينعكس على ماهو وجداني وذهني، أي على مستوى (اليقين). فسردية السيولة تبحث في القوة الرئيسة المسؤولة عن تغييب (الصلابة/ اليقين). وهي قوة داخلية، من داخل الحداثة نفسها، بنظر باومان؛ قوة قائمة على إذابة الكيانات الثابتة والمستمرة وتمييعها. وهي الكيانات التي تستمد قيمتها من استمراريتها ومن بقائها ومن ثباتها من داخلها؛ مثل البنى الاجتماعية، والروابط الإنسانية، والنماذج السلوكية، والنماذج القيمية المعيارية. فالتحديث، بما هو تمييع(ليس بمضمونه المعياري ولكن بمعناه الفيزيائي)، و(تسييل: من السيولة)، كان هو السمة البارزة المرافقة للحداثة في رحلتها الدراماتيكية؛ وهو مايسميه باومان ب: (التحديث الوسواسي القهري الإدماني). فعل قائم على: الإذابة المتواصلة، والإحلال السريع للبنى والنماذج الذائبة. والغريب أن فعل التحديث كان يرمي في بدايته إلى تحقيق الصلابة أو إلى تعزيزها! بل كان ضد تفكيك الروابط الاجتماعية وضد تقطيعها، لما يسببه ذلك من (فقدان الأمن الوجودي). وعلى هذا الأساس اشتغل فعل التحديث على صهر البنى القديمة وإذابتها لقلة( صلابتها)، وهو ماكان مدخلا لانهيار النظام القديم برمته. ولم توصلنا عملية الإذابة تلك، بنظر باومان، إلى أشكال صلبة كل الصلابة، أشكال محصنة ضد الصدأ والتلف والتآكل؛ أي الوصول إلى (الكلية الكاملة المثلى)، بتعبير أرسطو؛ كلية لا تقبل الإضافة ولا التعديل، ولا تستجيب لإغواءاته! إنها الحالة الثابتة والساكنة التي لا تقبل الانقسام ولا تتصوره. إنها الحالة (الصلبة)؛ حالة التحديث النهائي، والتي لاتضاهيها، بنظر رومانسيي الحداثة، حالات صلبة أخرى سجلها التاريخ البشري! أصبح فعل التحديث إذن (مهووسا) بعمليات الإذابة والتمييع والصهر. سيتحول هذا (الهوس) في مرحلة الحداثة السائلة إلى مداه، بل إلى النقيض من هوس الحداثة الصلبة؛ وهو إزالة خط النهاية من أفق التحديث. واشتغل الفعل التحديثي السائل بقوة وحيوية، بل بجنون، لإحداث ( الطفرات التحديثية) بلا نهاية. وفي هذا السياق قد يبدو لنا أنه وقع الاصطدام بين النموذج الصلب والنموذج السائل للحداثة، من حيث الاهتمامات القيمية والبرغماتية؛ من مثل العلاقة بين (الصحة) و(اللياقة)؛ إذ الأولى تطلب الثبات، وتحمي الحالة من الزيادة أو النقصان، و أما الثانية فلا تقف على ثابت، ولاتعترف بالحالة (النهائية). ففي هذا النموذج الأخير مثلا يحتل انعدام الراحة مرتبة أعلى من أي شكل من أشكال الراحة! كما يحتل التغير مرتبة أعلى من أي ثابت، مهما تحقق فيه من الراحة والمتعة والأمن. وبرغم هذا الاصطدام البارز بين النموذجين، من حيث القيم، إلا أن (السيولة) في الفعل التحديثي ليست نقيضا لنموذجه (الصلب)، بل تعكس هرم القيم الذي اتخذته الحداثة الصلبة، ويحقق هدفها الواضح أو الكامن. ومهما بلغت درجة (التمييع) و(التذويب)، بما يمنع إعادة تجميد الكتلة المنصهرة، فإن عملية (التسييل) تصوغ التصور الحداثي الصلب في قالب مادي صارم و(مشيء). نموذج يستبعد البدائل الأخرى ويلغيها، ويحررها من شرعيتها ومن واقعيتها. لقد أصبح الفعل التحديثي مصابا بالوسواس القهري، همه الإذابة والتمييع، حتى أصبح قاعدة ملزمة، ونظاما مستقرا جديدا بل ودائما . اعتبره البعض (نهاية التاريخ)، ومنه تناسلت نبوءات أخرى كثيرة، ارتقت به إلى درجة العقيدة الراسخة! بأركان ايمانها الثلاثة: المرونة هي الثبات الوحيد، والزوال هو الدوام الوحيد، والسيولة هي الصلابة الوحيدة. ولكن ركن الإحسان الكبير في هذه العقيدة هو: اللايقين هو اليقين الوحيد. يعيش الناس اليوم هذا النظام باعتباره واقعا مفروضا وملزما، بما هو حقائق اجتماعية قاهرة، بتعبير إميل دوركايم، لا تقل (قهريتها) عن قهرية الأجسام المادية الصلبة. والوعي بهذا الواقع، وبهذه التحولات، يقتضي الغوص الفكري في واقعنا الاجتماعي، وأخذ صور فوتوغرافية لمجتمع في حركة وتغير مستمرين، ونحن بصدد الانتقال من محطة إنسانية كبرى إلى أخرى، جاء فيروس كورونا أحد علاماتها الكبرى.


كورونا، السيولة، نهاية التاريخ، اللايقين، الروابط الاجتماعية.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع