مدونة عبدالحكيم الأنيس


الصعيدي العاشق ... حب وعفة وزواج وإيثار. (2)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


05/05/2022 القراءات: 1421  


فأتيتُ الخيمة فنظرتُ إليها، فرأيتُ ما جعل قلبي يخفقُ حتى كأنه سيخرج من صدري، وعاودني الوجدُ القديمُ، ولم أكد أصدقُ أنا في علم أم في حلم! لقد رأيتُ المرأةَ الفرَنجية غريمتي... فقلتُ: أعطوني هاتيك. فأخذتُها ومضيتُ إلى خيمتي.
وقلتُ لها: أتعرفينني؟ وكان قد مضى ثلاثُ سنوات على لقائنا، وهي في شدةٍ مما نزل بها من آثار المعركة والأسر.
قالتْ: لا.
فقلتُ: أنا صاحبُك التاجرُ في المكان الذي جرى له معك ما جرى، وأخذتِ مني الذهبَ وقلتِ: ما بقيتَ تبصرُني إلا بخمس مئة دينار. وقد أخذتُك ملكًا بعشرة دنانير!
فـنظرتْ إلي تتثبتُ مِن معالم وجهي فعرفتني وقالتْ: مدَّ يدك، أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فأسلمتْ.
ولا بد أن ما كان مِن عفتي عنها مع مزيد حبِّي لها قد أثّر في نفسها، وبقي يعمل في قلبها... وحسُن إسلامُها... تأكدَ لي هذا مما كان بعد أشهر قليلة.
فقلتُ: واللهِ لا وصلتُ إليها إلا بأمر القاضي.
فرحتُ إلى القاضي بهاء الدين ابن شداد الموصلي، مرافق السلطان، وحكيتُ له ما جرى، فعجبَ، وعقدَ لي عليها، وباتتْ تلك الليلة معي، وبتُّ بأنعم ليلة مرتْ عليَّ في عمري، بل بأنعم ليلةٍ تمرُّ على رجلٍ فوق ظهر الأرض يومئذ، وما أظنُّ السلطان صلاح الدين فرحَ بالنصر أكثر من فرحي وسروري بحصولي على هذه المرأة، ووصولي إليها بحلال طيب شريف عفيف، وحملتْ ونحنُ ما نزال في السفر.
ثم دخل العسكرُ فأتينا إلى دمشق، فما كان إلا شهورٌ قلائلُ مِن تلك السنة (583) وأتى رسولُ الملك الإفرنجي يطلبُ الأساري والسبايا باتفاقٍ وقعَ بين الملوك، فردُّوا مَنْ كان أسيرًا من الرجال والنساء، ولم يبق إلا امرأة الفارس التي عندي.
فسألوا عنها وألحوا في السؤالِ والكشفِ، فوُشِيَ بها أنها عندي، فطُلِبتْ مني، وحضرتُ إلى البيت وأنا في شدةٍ وفزعٍ وقلقٍ لا يعلم به إلا الله، وتخيلتُ حرماني من هذا الفردوس، وخروجي إلى صحراء الشوق القاحلة، بعد هذا النعيم الذي لا يُوصف، والسرور الذي لا يُحد، والسعادة التي لا سعادة تشبهها، وقد تغيَّر لوني وتملكتني الكآبةُ والوحشةُ والحيرةُ، فقالتْ -وقد رأتْ في وجهي ما لم تر في تلك الأشهر الجميلة التي جمعتنا-: ما بدا لك وما الذي أصابَك؟
قلتُ: جاء رسولُ الملك، وأخذوا الأسارى جميعَهم، وطلبوني ليأخذوكِ!
فقالتْ: لا بأس عليكَ، أحضرني إليهم، وأنا أعرفُ الذي أقولُ لهم. ولم أدرِ ما ستقولُ، ولكن لم يكن لي خيار إلا أن آخذها.
فأخذتُها ومضينا والوساوسُ تأكلُ قلبي، والخوفُ ينهشُ روحي، وأحضرتُها قدامَ السلطان الملك الناصر صلاح الدين، والرسولُ جالسٌ عن يمينه، فقلتُ: هذه المرأة التي عندي.
فقال لها الملكُ والرسولُ: تروحين إلى بلادك أم إلى زوجك؟ فقد فُكَّ أسرُك أنتِ وغيرُك. وشعرتُ في تلك اللحظات أنَّ الزمن توقف، والدنيا اختُصرتْ في كلمةٍ ستخرج مِن بين شفتيها...
فقالتْ للسلطان: أنا قد أسلمتُ، وحبلتُ، وها بطني كما ترونه، وما بقيت الفرنجُ تنتفعُ بي. ولما سمعتُ هذه الكلمات منها وددتُّ لو وهبتُها روحي، وكدتُّ لولا هيبة المجلس أن آخذها إلى صدري بكل ما آتاني الله من قوة.
فقال لها الرسولُ يُخيِّرها: أيما أحبُّ إليك هذا المسلمُ أم زوجُك الفارسُ فلان؟
فقالتْ له كما قالتْ للسلطان. واستحيتْ أن تقول: هذا الصعيدي الأسمر الشهم الحنون الصادق أحبُّ إلي من ذلك الفارس الأشقر.
فقال الرسولُ لمَنْ معه من الفرنج: اسمعوا كلامَها.
ثم قال لي الرسولُ: خذ امرأتَك وامضِ.
فوليتُ بها، وإذا به قد أرسل إلي عاجلًا، فعاودني الخوفُ، وخشيت أن لا تحملني رجلاي، وطافتْ بنفسي طوائفُ من الاحتمالات، وإذا بمفاجأةٍ أخرى عجيبةٍ جاء بها القدرُ الرباني الحكيم.. قال: إنَّ أمَّها أرسلتْ لها معي وديعةً وقالتْ: إنَّ ابنتي أسيرةٌ وهي عريانة شعثة، وأشتهي أن ترسلَ لها هذا الصندوق وتسلِّمه لها.
فتسلمتُ الصندوق، ومضينا إلى الدار ففتحتُه فوجدتُّ قماشَها الذي اشترتْه مني في (عكّا) بعينه وقد صرَّتْه لها أمُّها، ووجدتُّ الصُّرتين الذهب: (الخمسين دينارًا)، و(المئة دينار) كما هُما بربطتي لم يتغيرا!!
ثم حملتُها ورجعنا إلى الصعيد خوفًا ممّا قد يقوم به زوجها السابق... وعاشتْ معي مكرمةً معززةً، وفي كل يوم يزيد حبي لها، وتعلقي بها، وإكرامي موضعَها، ورأتْ منزلة المسلمات في بيوتهنَّ فزادها ذلك إيمانًا وثباتًا، وما كانت تذكر سوى أمها التي ابتعدتْ عنها...
وهؤلاء الأولادُ منها، وهي تعيشُ، وهي التي عملتْ هذا الطعامَ.
ودعاها... يا قمر (وهو الاسم العربي الذي أطلقه عليها)، فجاءتْ وهي تلبس ثوبًا من كَتان رائعًا، وعلى رأسها وشاحٌ من حرير رفيعُ القيمة، ولم يستطع الزمانُ أن ينال من ذلك الجمال الذي فُتن به صاحبُنا، بل زادها الإيمان نورًا، والطاعة إشراقًا، فعجبنا من عشق صاحبنا وعفته، وأُخذنا بحكايته وقصته، وقلنا: حقًّا مَن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه".
وقلنا: كيف هذا الصعيدي معك يا قمر؟ فضحكتْ فكأنَّ بريقًا برق في البيت وقالتْ: نعم التاجر، ونعم الشاب، ونعم الرجل، ونعم الزوج، ونعم الأب...
وخرجنا ونحن نغبطهما على سعادتهما ...
قال متولي القاهرة: وما ذكرتُهما إلا صغر نعيمُ المُلك وأبهةُ الأمر والنهي في عيني...


الحب. العفة. عجائب القصص


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع