مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم
✍️{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}(1)
باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM
01/01/2023 القراءات: 588
وعلى هذا يُحمل قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وكل هداية نفاها الله عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن البشر، وذكر أنهم غير قادرين عليها ما عدا الهداية الثانية وهي الدعوة. فالهدايات المنفيَّة عن البشر الدعاة هي الأولى -العقل والفطرة-، والثالثة -التوفيق-، والرابعة -إدخال الجنة-.
فالدعاة عاجزون عن منح العقل للناس، وعاجزون عن منح التوفيق والثبات للناس، وعاجزون عن منح الجنة للناس.
ولكن الدعاة مطالبون بتقديم الدعوة للناس - وهي الهداية الثانية.
وإلى الهدايات الثلاث المنفية عن البشر أشارت آيات من القرآن.
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
وقال تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلى الهُدى}.
وقال تعالى: {وَما أَنْتَ بِهادِ العُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ}.
وقال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}.
وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
هذه خلاصة كلام الإمام الراغب عن الهدى والهداية، أوردناه بتصرف واختصار، وهو كما نرى رائع ودقيق وصائب.
بعد هذا الكلام نقرر أن الداعية لا يملك أن يمنح الإيمان للمدعوّين، أو أن يقذفه في قلوبهم، لأن هذا مما اختصَّ به الله سبحانه. وعلى هذا تحمل هذه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
وكأن الله يقول للرسول عليه السلام -ولكل داعيةٍ من بعده- إنك لا تستطيع أن تجعل من أحببت من البشر مؤمناً، ولا أن تُدخل الإيمان في قلبه. إن هذا الأمر بيد الله، فهو الذي يهدي للإيمان من يشاء، بمعنى أنه هو الذي يقذف الإيمان في قلب من يشاء -وفق السنن الربانية الدائمة في الهداية والإضلال، التي تقرر للإنسان الإرادة والاختيار لطريق الهدى أو طريق الضلال، وكوْن هذا الاختيار الإنساني لأحد الطريقين، موافقٌ لما في علم الله الأزلي، ومحقق لإرادة الله ومشيئته-.
ولذلك فإن قلوب البشر جميعاً بيد الله، والدعاة لا يملكون أن يُكرهوا واحداً منها على الإيمان. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}. وقال: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}.
وإذا كان الدعاة لا يملكون هذا النوع من الهداية -الذي نفته عنهم آية القصص موضوع البحث- فلا يعني هذا أن يقعد الدعاة عن الدعوة، وأن يتوقفوا عن البيان والنصح والتذكير، وأن يتركوا الناس لأنهم لا يملكون هدايتهم -كما قد يفهم بعضهم خطأ- فإن البيان والنصح والتذكير واجبٌ على كل مسلم، وقد مكَّنه الله منه، وجعله في وسعه، وضمن إمكاناته واختصاصاته.
وقد كثرت الآيات الصريحة التي تجعل هذا في يد الداعية. نختار منها ما يلي:
قال إبراهيم عليه السلام لوالده: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}.
وقال موسى عليه السلام لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}.
وقال مؤمن آل فرعون مخاطباً فرعون وقومه: {يا قَوْمِ اتَّبِعونِ أَهْدِكُمْ سَبيلَ الرشاد}.
وقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}. وقال تعالى عن الدّعاة الصالحين من بني إسرائيل: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
وجعل هذا الأمر في يد كل الدّعاة الصالحين: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
وهذا القرآن العظيم الحبيب هادٍ يهدي الآخرين. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
هذه الهداية التي جعلتها الآيات السابقة بيد الدعاة هي هداية الدعوة إلى الله، والتذكير بالحق، والدلالة على الخير، والإرشاد إلى الصواب. وهم مأجورون عندما يقومون بها، ولو لم يستجب المدعوون لهم. وهم آثمون معذَّبون إن تخلّوا عنها، بحجة أن المدعوين لم يستجيبوا لهم.
أجر الدعاة على هذه الهداية، متحقق عند القيام بها، وأدائها -بصدق وإخلاص وهمة وجدِّية- وهذا الأجر معلَّق على قبول المدعوين واستجابتهم لهم.
على المدعوين القيام بالخطوة التالية، وهي أن يستجيبوا للدعاة، وأن يقبلوا منهم هديتهم الدعوية لهم، وأن يهتدوا بالهدى الذي دلّوهم عليه وأرشدوهم إليه. عليهم أن يفعلوا ذلك ليكونوا من المهتدين النّاجين الفائزين.
وهذا الاهتداء الذي يقومون به إنما هو لأنفسهم ولمصلحتهم.
قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}.
بهذا البيان نقوم بالجمع والتوفيق بين الآيات المتقابلة -والتي تبدو متعارضة لذوي النظرة العجلى- وبهذا نفهم أنواع الهداية في القرآن، وما جعله في مقدور البشر منها، وما نفاه عنهم منها. وبهذا نعلم أن آية القصص -موضوع البحث- من النوع الثاني، وأن هناك آيات كثيرة من النوع الأول.
***
✍️{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}(1)
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة