البعد الحجاجي في نص " مقتطفات من خطاب نوح بعد الطوفان" لعبد العزيز المقالح
مسعد عامر سيدون المهري | Musaad Amer Saidoon Almahry
08/05/2023 القراءات: 787
.
لقد حققت قصيدة المقالح نضوجا فنيا كبيرا في توظيف الرمز والقناع على مختلف أشكالهما ودلالاتهما المتنوعة؛ التاريخية والدينية والأسطورية. ويرى بعض الباحثين أن وفرة الرمز الشعري عند عبد العزيز المقالح جاء نتيجة عدة عوامل، منها: أنه اي الرمز امتداد لتجربته الشعرية ومعاناته، ومنها سعة ثقافته الوطنية والعربية والعالمية بأبعادها التاريخية والدينية والاسطورية. أما القناع فهو صورة مقتضبة يوظف الشاعر خصائصها في مواقف شعرية مناسبة، ومقامات بلاغية يستدعيها المقام والسياق الشعري.
بناء على ذلك لا يقف قارئ المقالح في قراءته على نمط محدد من الرمز الشعري، ولكنه يجد نفسه أما خريطة العالم تتداخل فيها المعالم العربية والإسلامية والعالمية، فمن الهند شرقا إلى أوربا غربا إلى أمريكا الجنوبية تتوزع الرموز في شعر المقالح أفقيا، أما رأسيا فمند البشرية الاولى الى عهود الانبياء إلى اليونان والفرس فالعصر الجاهلي والإسلامية والعباسي إلى العصر الحديث والمعاصر، تتعد معالم الرموز التي يوظفها الشاعر في سياقات شعرية مناسبة، تنطبع بطابع التجربة الشعرية.
في الواقع إن المقالح وظف الرمز بمختلف انواعه، التراثي، والصوفي، والأسطوري، و الطبيعي .
إذا ما انتقلنا إلى صلب حديثنا وهو حضور البعد الحجاجي في شعر المقالح، مسلطين الضوء على حضور القصة القرآنية بما فيها من نفس حجاجي وأسلوب إقناعي لافت، نجد أن الشاعر يستخدم القصة القرآنية في مواضع كثيرة من أعماله الشعرية، ربما لأنه وجد فيها رمزا يحيل إلى واقع أو تجربة، أو موقف شعري، وفي النص الذي بين أيدينا يمكن أن نستشف أن الشاعر وجد في قصة نوح عليه السلام موضوعا يشد انتباه المتلقي بتحولاتها على مستوى الاجتماعي والثقافي هذا أولا، ثانيا ربما كان لعامل التلقي دورا فاعلا، إذا ما علمنا أن الشاعر يتوجه بخطابه إلى المجتمع اليمني، وعليه فإن رمزية القصة تنبع أهميتها من كون مصدرها أصدق كتاب وأجل كتاب وهو القرآن الكريم. وبالتالي فإن المتلقي خصوصا اليمني ينظر إلى هذه القصة من واقع قدسيتها، لذلك استلهم المقالح روح القصة وفحواها وادخلها في نسيج العمل الشعري أو الرسالة الشعرية، ربما لتشابه اسقاطات القصة على واقع اجتماعي وثوري مناسب، فقصة نوح عليه السلام تمثل مدخلا مهما للتعبير في نظر المقالح عن واقع اجتماعي انتهى به المطاف إلى الغرق في طوفان لا يرحم، جاء نتيجة عصيان الاوامر وعدم احتساب العواقب، وقد عنون الشاعر لقصيدته بجملة تامة " مقتطفات من خطاب نوح بعد الطوفان" يحمل العنوان بعدا إشاريا مناسبا، خصوصا كلمة مقتطفات التي تحمل معنى الاختصار والإيجاز، وكأن الذي يعنينا من الخطبة هذه المقتطفات لا الخطبة بأكملها، المفردة الاخرى التي يتوقف النظر عندها " الطوفان " وهي تحيل إلى العموم الذي يستغرق كل بقعة من المكان، وكأن اليمن كلها بأسباب سياسية وتاريخية وثقافية وقعت تحت طوفان لا عاصم من الا من رحمه الله .
حقيقة أن القصيدة عامة ترتدي القناع، فالشاعر استخدم فيها قناعا دينيا ، فهو يتوجه إلى الشعب بلغة افتراضية مستوحاة من أحداث القصة:
قُلتُ لكُم
من قَبلِ أن يَثُورَ مَاءُ البَحرِ
قَبلَ أنْ تُعَرْبدَ الأموَاجْ
وقَبلَ أن يَغِيبَ وَجْهُ الأرضِ
قلتُ الدّاءَ
والعلاجْ
لم تَحفلُوا .. لمْ تَسْمَعُوا..
كُنتُم هُناكَ في الغيومِ
في الأبراجْ
لعل القارئ يلمس لأول وهلة النتيجة المتخيلة من الآثار التي خلفها الطوفان، والشاعر يقف على مخلفات الطوفان، مذكرا قومه بنصائحه التي راحت أدراج الرياح، لأن الشعب الذي يضرب صفحا عن نصح المخلصين من أبنائه الذين يدركون ما وراء الأحداث، يقع فريسة الوهم والخداع، كيف كان صور المقالح ذلك؟
أَرجلُكُم مَمدُودةً كانتْ إلى السَّحابْ
رؤوسُكم مغروزةً في الوَحْلِ..
في الترابْ
في هذه الأسطر يكشف الشاعر عن حالة اللامبالاة و الاعراض التي يمارسها الشعب حين يسلم نفسه لقيادات فاشلة إدرايا وسياسيا واقتصاديا.
وطالما كان سيدنا عليه السلام كما في القصة القرآنية لم ييأس، ولم يتوقف عن النصيحة والإرشاد لقومه، على الرغم من إعراضهم عن كل ما يدعوهم اليه من التوحيد والاستقامة، بل ( جعلوا أصابعهم في أذانهم، واستغشوا ثيابهم ..الآيات ) .
في روح مشفقة ناصحة وأسلوب حكيم من سيدنا نوح، يتمثله المقالح حين يخاطب شعبه على سبيل التذكير:
قرَّبْتُ مُشفِقًا سَفِينَتِي
أَنفَقْتُ عُمري
أَجمَعُ الأعوَادَ والأخشابْ
قَطعْتُ وَجهَ اللَّيلِ والنهارْ
لكن صوت الشاعر ضاع مع الرياح ومع الاصوات الكثيرة التي تمكر بالشعب وتعده وتمنيه حتى يستمري الظلم، ويوطن نفسه للاستغلال البشري.
قلتُ لكم والمدُّ لم يزلْ بعيدا
والبحرُ لم يزلْ بعيدا:
أن تفتحوا عيونَكم على الخطرْ
أن تجمعوا السّادةَ والعبيدا
أن تصنعوا
منْ شوقِكم منْ حُبِّكم نشيدا
لتصعدوا بِهِ إلى القمرْ
لكنَّكم لم تسمعوا
تعالتِ الضِّحْكاتْ
في رُدُهاتِ القاتْ
أقْعَى الضميرُ في ديارِكم
وماتْ
فكانَ هذا الهولُ
والأحزانْ
كانتِ الهِزّاتْ
لا سُفُنُ البحرِ ولا الفضاءْ
تنقذُكم من قبضةِ القضاءْ
فقد طغى الطُّوفانْ
وكانَ يا ما كانْ
في لغة شعرية مكثفة تجاوزت الصورة الجزئية إلى الصورة الكلية المعتمدة هنا على الحس الدرامي، ومن خلال توظيف سلسلة من الوقائع الحجاجية التي تعزز خطبة الشاعر لشعبه التي تقمص فيها قناع التاريخ.
فالنص الشعري هو الآخر ارتدى أسلوبا حجاجيا وهو أسلوب الخطبة التي تتطلب جمهورا يتلقى من هنا وجدنا سلسلة من الأفعال المسندة إلى ضمير الجمع ( قلت لكم، لم تحفلوا، لم تسمعوا، كنتم، أن تفتحوا، أن تجمعوا، أن اسمعوا..) أيضا ضمير الجمع المضاف إلى الأسماء ( أرجلكم، رؤوسكم، شوقكم، لكنكم..الخ) يلعب ضمير الجمع دورا فاعل في بنية النص الذي يقترب من جنس الخطابة يوقعها الحجاجي والبرهاني، فالشاعر يقصد فيما يقصد إليه إقامة الحجة على الجماهير التي اعرضت عن جهود الثوار، واستسلمت لطوفان التخلف والعسف والظلم والجهل، فأي مرحلة تتوقف فيه آمال الشعب، يعقبها ردة إلى التخلف.
الحجاج، الشعر ، عبد العزيز المقالح
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
في الواقع إن الشاعر يعزز دور العملية الاقناعية في هذا النص الذي اتخذناه مثالا لحضور القصة القرآنية عنده، قدم فيه مستويات حجاجية ظاهرة، ابتداء بالنص الذي ينتمي إلى الجنس الشعري، ثم ثوب القصة بعناصرها الشيقة من حوار وحدث وحبكة، ثم هذا النفس الخطابي الذي يُعلي من شأن النزعة الحجاجية في النص الشعري.