مدونة أ.د بلقيس أحمد الكبسي


ج3/ قراءة نقدية لرواية ( نزوة قابيل ) الناقد " إبراهيم أوحسين / المغرب

أ.د بلقيس أحمد الكبسي | Prof.Dr. Belqes Ahmed ALkebsi


01/03/2022 القراءات: 1165  


الروايةُ ، الصرخةُ ، ما بعد النزوة ،قراءة نقدية في رواية "نزوة قابيل" للأديبة اليمنية أ. د بلقيس الكبسي.
هكذا نظرت البطلة "تُوق" إلى المشهد خصوصا بعدما تُوفي أبوها وأمها وجدّتها نتيجة إحدى القذائف المفاجئة التي أصابت بيت الأسرة جاعلة إياه أثرا بعد عين، إضافة لفقدان أخيها الأكبر «تاج" وعدم ظهور أثر له سواء بين الأحياء أو بين الموتى، بالرغم من وجود شبيه له في غرفة حفظ الجثث. هنا تتساءل تُوق:لماذا يُقصف المدنيون العُزَّل المجرّدون من كل درع واقٍ؟ السؤال الذي يحيلنا مباشرة إلى مقولة روسو في عقده الاجتماعي مؤكدا أن الحروب إنما هي علاقة بين الدول لا بين البشر، والعداء يكون للجندي لا للإنسان الأعزل؛ كما يحيلنا السؤال بالضرورة إلى الموضوعة القديمة الجديدة: الحرب والأخلاق. هي أسئلة لم تتعرض لها تُوق بالإجابة الفلسفية في تضاعيف الأحداث وإن حامت حول حماها في بعض المقاطع. المهم أن البقية الناجية من الأسرة (توق) انتقلت للعيش مع العمّ"راجي"بعدما قضت توق أياما في المستشفى، الحدث الذي سيولّد صراعات وتجاذبات نفسية وعاطفية تارة مع زوجة عمها"دهمة"_ المتسلطة الظالمة_ وتارة مع ابن العم"ركان"بارقة الأمل وجذوة الحب الأولى؛ هنا ستتقمص توق ثلاثة أدوار بالضبط مُحافِظة عليها إلى نهاية الرواية: الصراع مع دهمة و البحث عن الأخ المفقود و مشاركة"ركان"ابن عمها مشاعر حب عذري. يستمر هذا الدور ثلاثي المسارات إلى محطات تُفاجئ حقيقة أفق انتظار القارئ، بل، يبدو أن الكاتبة استعجلت إنهاء الرواية وختمها، لأنها _ ونقصد الكاتبة والبطلة في ذات الوقت_ كالتي يُطلب منها رسم وشوم على جسد جثة ساكنة !! من أين لها بالنفس الطويل لابتداع أحداث أخرى في روايتها والجرح المفتوح أعمق مما نظن؟؟ هكذا تداعت الأحداث بسرعة، فأضحت دهمة المتسلطة مُقعدة بعدما غادر الزوج البيت، واختفى ركان بعد انضمامه لصفوف المدافعين عن الوطن، واستطاعت توق العثور على أخيها المفقود لكن بذاكرة مفقودة كذلك؛ فلم يكن أمام توق إلا الاعتناء بدهمة وبالبيت الذي أصبح شبه فارغ، منتظرة حبيبها ركان لعل المستقبل يجود به يوما ما.
صنع الحرب والموت ما صنعاه في اليمن الجريح، وكان ما كان من شأن الأرواح والجدران، وقد تساءلت الروائية في تضاعيف الرواية: ما الذي يمكن أن يحدث بعد الذي حدث؟ الأحباب شأنهم شأن الموتى أو المفقودين، والوطن تلاشى ودُفن تحت التراب... كأنها في الحقيقة تُذَكِّرنا بأبيات عبد العزيز الماجشون أحد فقهاء المدينة _ في عهد الخليفة العباسي المهدي _ حين فقد أحبابه قائلا:
للهِ باكٍ على أحبابهِ جَزَعَا // قد كُنتُ أَحْذَرُ هذا قبل أن يَقَعَا
ما كان والله شُؤْمُ الدّهر يتركني // حتى يُجرِّعَنِي من بَعْدِهِمْ جُرَعَا
إن الزمان رأى إِلْفّ السّرورِ لَنَا // فَدَبَّ بِالبَينِ فيما بيننا وَسَعَى
فليصنعِ الدّهرُ بي ما شاء مُجتهداً // فلا زيادَةَ شيءٍ فوق ما صَنَعَا
إلا أن الحرب لم يمنع الحب من الميلاد والترعرع، كما لم تمنعه الكوليرا في رائعة كارسيا مركيز، بل، من المصائب ما يجعل هذه العاطفة الإنسانية تبزغ وتتنامى؛ أَ لَمْ يتذكر عنترة ثغر عبلة المتبسّم في خضم إحدى معارك عبْس الحامية؟
إن الموت ينجب الحياة بلا شك، كالحرب تتعهد الحب في رحمها، وما تَوَلَّدَ بين ركان وتوق تحت نير لهيب القذائف إنما هي مشاعر حب عذري بدأ ولم ينته؛ رباط عاطفي جعل البطلة توق تشتبك بحبائل السراب والوهم، خصوصا بعد مغادرة ركان بيت العشق إلى خط اللاعودة... وهكذا الحب،كما ذكر ابن حزم الأندلسي في طوق الحمامة، أوّله هزل وآخره جِدّ، ولا يتعانى تداعياته حقيقة إلا من تعاطاه بجدية تامة وتصدى لِلُجَجِهِ الهادرة، وهنا تقدم لنا توق درسا في الوفاء رغم ما يلتبس به من انتظارية ذات أفق متلاشٍ، مؤكدة في ختام الرواية بقاءها على العهد وعلى ذكرى البدايات؛ تقول (ص 182):"سأنتظرك سواء راودتك مسافات الإياب أو باعدتك سنون الغياب، سواء عدت أو لم تعد، سأبقى على قيد الوطن".
الخاتمة: الباب المفتوح وما بعد النزوة...
البقاء على قيد الوطن إنما هو إحالة على خاتمة مفتوحة، والكاتبة طبعا أذكى من أن تجعل لروايتها نهاية قاطعة، مادامت الحرب مستمرة ولم يخمد لهيبها بعد. الرواية إذن فتحت احتمالا لنهايات متعددة يمكن أن تختم الأحداث البدئية. وإن شئنا الحديث بلغة المناطقة، أكدنا بلا مجازفة، أن أي عمل روائي مهما كانت أحداثها وشروطها ومنطلقاتها الأولية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال تثبيت نهاية واحدة وإن كانت منسجمة حدّ الكمال مع السياق الروائي العام. إن النهايات الروائية إنما تُكتب اضطرارا لضبط العمل بعدد صفحات محدد دون تمطيط الأحداث إلى حد الشعور بأننا أمام أوديسة أو ملاحم مطوّلة. والحقيقة أنه مادامت الفيزياء المعاصرة استسلمت لمفهوم الزمكان (ارتباط الزمن بالمكان دون فيصل)، فالحدث إن كانت له بداية فنهايته أبعد في المستقبل مما نظن.ماذا بعد النزوة؟ سؤال يؤرق القارئ أكثر مما أرّق الكاتبة بلقيس الكبسي، كونه يطرح سؤال موازيا يدخل في علم الغيب الخارج عن طوق علم اليقينيات، وهو ببساطة: متى تنتهي حروب العرب؟ أو على مستوى أعلى، متى تنتهي الحروب جملة؟ متى تنقضي أطماع المقتاتين على آلام الشعوب؟... أو لعلها لن تنقضي الأطماع مادامت جزءا من الذات الطامحة والمتطلعة... هنا ينبغي الغوص في رواية"كي لا تنتهي الحرب"لجورج فرشخ، فلعلّه يطلعنا على نزوة أخرى بعد نزوة قابيل.


الروايةُ ، الصرخةُ ،قراءة نقدية في رواية "نزوة قابيل" للأديبة اليمنية أ. د بلقيس الكبسي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع