مدونة مريم فيلالي


مفهوم العدل عند الفلاسفة المسلمين: (الفارابي/ ابن سينا/ مسكويه)

مريم فيلالي | meriem filali


20/07/2022 القراءات: 3590  


** الفارابـي: تنـاول مفهـوم العـدل في عـدد من رسائلـه، وفي مقدمتهــا رسالتـه عـن "المدينة الفاضلة"، متأثراً كما هو معلوم بالفلسفة اليونانية، ولاسيما الفلاسفة المشائين كأفلاطون وأرسطو، عاملاً على التوفيق بينها وبين القيم الدينية والإسلامية. وأهم تحول حققه الفارابي في هذا السياق أنه لم يتصور العدل إلا داخل الحياة الاجتماعية أو المجتمع المدني. يقول في هذا الصدد : العدل أولاً يكون في قسمة الخيرات المشتركة التي لأهل المدينة على جميعهم، ثم بعد ذلك في حفظ ما قسم عليهم، وتلك الخيرات هي السلامة والأموال والكرامة والمراتب، وسائر الخيرات التي يمكن أن يشترك فيها. فإن لكل واحد من أهل المدينة قسطـاً أي (حقاً) من هذه الخيرات مساوياً لاستذّاله. فنقصه عن ذلك وزيادته عليه جور. أما نقصه فجور عليه (أي على الشخص)، وأما زيادته فجور على أهل المدينة (أي على المجتمع)، فإذا قسمت تلك الخيرات واستقر لكل واحد قسطه، فينبغي بعد ذلك أن يحفظ عن كل واحد من أولئك قسطه، إما بألا يخرج عن يده، وإما بأن يخرج بشرائط وأحـوال لا يلـحق مـن خـروج ما يخرج عن يده ضرر، لا به ولا بالمدينة. والجور هــو أن يخـــرج عــن يــد الفـرد قـسطه مـن الخـيرات مـن غيـر أن يعـود المساوي له، لا عليه ولا على أهل المدينة. وينبغي أن تقدر الشرور والعقوبات حتى يكون كل جور بحذائه عقوبة ما مقدرة تفرض مساوية له. فإذا نيل الفاعل للشر بقسط من الشر كان عدلاً، وإذا زيد عليه كان جوراً
إن النص السابق يتضمن التأكيد لقيم يمكن ترجمتها إلى لغتنا المعاصرة، فتعني حينئذ الاشتراكية العادلة، أي العدل الاجتماعي في توزيع الثروة، والعمل المنتج، والسهر على استمرار التشارك المتوازن بين أفراد المجتمع في الإنتاج، وتحمل تبعات التنظيم الاجتماعي مادياً ومعنوياً، وذلك في إطار ما لأعضاء المجتمع المدني من حقوق، في مقدمتها حق الكرامة وحق الأمن على النفس وحق العمل. وكل زيادة أو نقص لفرد في حصته من هذه الحقوق، إما أن يضر بحق الفرد، أو بحق الجماعة. كما أن العقاب على المخالفة ينبغي أن يكون عادلاً، أي مساوياً للأذى الذي ألحقه الفرد بالمجتمع، دون تعسف أو تطرف. فالمدينة الفاضلة هي التي تؤسس علاقاتها الاجتماعية على العدل بهذا المعنى. وبذلك أخذ العدل عند الفارابي مضموناً مختلفاً عن العدل العقلي أو الإلهي. وفي إشارته إلى المدينة الجاهلة، وهي التي تقابل الفاضلة، ينظر إلى العدل نظرة مختلفة، فالعدل كما يتصوره الحاكمون المستبدون في تلك المدينة يختلف عن العدل كما يتطلع إليه المحكومون المستضعفون.

**ابن سينا (428هـ/1037م) يقتفي خطوات الفارابي، في مفهوم العدل الاجتماعي، إلا أنه يزيده تعميقاً. فابن سينا يرى أن المجتمع هو حشد من البشر يشعرون بضرورة الاجتماع، ويرتضون ضمنياً أن يكونوا أعضاء داخل مجتمع يتساوي أفراده في الحقوق. وهكذا كان ينظر إلى المجتمع على أساس القول بوجود عقد أصلي تقوم عليه "المدينة العادلة"، وليست مدينة فاضلة وحسب. وتلك إشارة واضحة تدل على ريادة ابن سينا للقول بالعقد الاجتماعي، قبل الفيلسوف جان جاك روسو (1787م). ويقول ابن سينا عن علاقة الشريعة بالعدل، إن غرضها هو إقامة نظام سياسي عادل، وتمكين الناس من بلوغ السعادة في الدنيا والآخرة. ويتحدث في رسالته عن (المدينة العادلة) عن تفاصيل نظامها الاجتماعي، ابتداء من تعيين الحاكم العادل، وانتهاء بالتنظيمات الاقتصادية، من حيث توزيع المهن والأعمال المنتجة. ويؤكد أن من العدل تطبيق الشريعة أو القانون على جميع أفراد المدينة على قدم المساواة، ومعاقبة من يخالفونها على أن يكون العقاب عادلاً.


*** أحمد ابن محمد مسكويه (421هـ/1030م) الذي عمق مفهوم العدل بصورة متميزة، في كتابه تهذيب الأخلاق، وفي رسالته عن ماهية العدل.فلقد صنف العدل في ثلاثة أصناف، وهي العدل الإلهي، والعدل الطبيعي، والعدل الاجتماعي الذي سماه العدل العرفي، وهذا الأخير يقوم على أساس التوسط بين طرفي الجور والإنصاف. يقول مسكويه : أما العدل الإلهي فيوجد في الأشياء الأبدية والميتافيزيقية. والفرق بين العدل الإلهي والعدل الطبيعي، ولو أن الأخير أبدي، هو أن العدل الإلهي يوجد في غير المادة، بينما ليس للعدل الطبيعي وجود إلا في المادة.
ويقول في نص آخر : العادل بالحقيقة هو الذي يعدل قواه وأفعاله كلها، حتى لا يزيد بعضها على البعض، ثم يروم ذلك فيما هو خارج عنه من المعاملات والكرامات، ويقصد في جميع ذلك فضيلة العدالة نفسها لا غرضاً آخر سواها، وإنما يتم له ذلك إذا كانت له هيئة نفسانية أدبية، تصدر عنه أفعاله كلها بحسبها. ولما كانت العدالة توسطاً بين أطراف، وهيئة يقتدر بها على رد الزائد والناقص إليه، صارت أتم الفضائل وأشبهها بالوحدة، وأعني بذلك أن الوحدة هي التي لها الشرف الأعلى والرتبة القصوى. وكل كثرة لا يضبطها معنى يوحدها فلا قوام لها ولا ثبات. والزيادة والنقصان والكثرة والقلة هي التي تفسد الأشياء، إذا لم يكن بينها منافـذ تحفـظ عليها الاعتـدال بوجه ما. فالاعتدال هو الـذي يـرد إليها ظل الوحدة ومعناها، وهو الذي يلبسها شرف الوحدة، ويزيل عنها رذيلة الكثرة والتفاوت والاضطراب
هذا النص إلهام من كتاب تهذيب الأخلاق لمسكويه، لا يضع العدل في أعلى مراتب الفضائل وحسب، ولكنه يحدد فاعليته داخل منظومة القيم الإنسانية كلها، من حيث هو وحدة قادرة على ضبط التوازن بينها جميعاً، فكأنه ميزان ضامن لجعل كل فضيلة أو قيمة أخلاقية لا تنقص ولا تزيد عما يراد منها، داخل السلوك الإنساني. ومفهوم الوحدة الذي يعطيه مسكويه للعدل يعكس النظرة الشمولية للعدل داخل النظام الكوني. فإذا كان الكون قائماً على الكثرة اللامتناهية من الظواهر والأشياء والكائنات، فإن لهذه الكثرة قانوناً يجعل منها منظومة لا تتصادم مكوناتها، ولا تتناقض ولا تتصارع طالما هي منضبطة مع ذلك القانون الأسمى.


العدل. الفارابي. ابن سينا. مسكويه. المدن الفاضلة والعادلة. العدل. الإلهي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع