مدونة يوسف دفع الله حسين محمد


ثنائية الحنين والمكان عند ابن زيدون مقاربة أسلوبية

د. يوسف دفع الله حسين محمد | Yousif dafa alla husin mohmmed


11/12/2021 القراءات: 4864  


ثنائية الحنين والمكان عند ابن زيدون مقاربة أسلوبية

ليس هناك مكان أكثر إلفة للإنسان من المنزل، وقد وصفه غاستون باشلار بأنَّه أحد أعظم قوى تكامل أفكار الإنسان وذكرياته وأحلامه، وكثيرا ما يجد الإنسان أنَّ ذاكرته تختزن المواقف والأحداث والأفكار وكلها يجعل من المكان إطاراً لتتفاعل فيه، والمكان كإطار مُحَدَد لخصوصية اللحظة المُعَالَجة في إطاره قد أصبح بمثابة مرآة تعكس الصدى النفسي للشخصية حيث يتماثل – دلالة وتركيبا – مع ما يعتمل في النفس وباستطاعتنا أن نلمح ما في نفس الشاعر من خلال وصفه للمكان، لأنَّ الوصف أسلوب انشائي يتناول ذكر الأشياء في مظهرها الحسي ويقدمها للعين ولذلك يحتم علينا أن ننظر إلى الصورة المكانية لا على أنها تشكيل للأشكال والألوان فحسب، ولكن على أنها تشكيل يجمع مظاهر المحسوسات، من أصوات وروائح وألوان وأشكال وظلال وملموسات ... الخ. إنَّ صورة المكان عند ابن زيدون كادت أن تتجسد فيها كل الصور الحسية، وتحتوي على مظاهر الطبيعة، فحتى الإنسان بكل ضروبه حاضرا في صورة المكان، وقل ألَّا نجد الإنسان في الصورة المكانية في شعر الحنين، وكثيرا ما لجأ إلى إدراج الزمان بكل مستوياته وتجلياته في الصورة الفنية، فالصورة عنده عامة تتشكل من الإنسان والزمان ومظاهر الطبيعة.
هرب ابن زيدون من سجنه إلى إشبيلية في عام 1904م، ونظم هذه القصيدة في بطليوس، يتشوق إلى قرطبة، ويتذكر أيام صباه ولهوه في منازلها التي كان يختلف إليها في الأعياد، حيث يقول:
خَليلَيَّ لا فِطرٌ يَسُرّ ولا أضْحَى
فَما حالُ مَنْ أمْسَى مَشوَقاً كَما أضْحَى؟
لَئنْ شَاقَنِي شَرْقُ العُقابِ فَلَمْ أَزَلْ
أخُصّ بِممحوضِ الهَوى ذَلك السّفْحا
ومَا انفَكّ جُوفيُّ الُّصَافةِ مُشْــعِرِي
دَواعِي ذِكْرَى تُــعْـــقِبُ الأسَفَ البَرْحا
ويَهْتاجُ قَصْرُ الفارِسِيّ صَـبَابَةً
لِــقَــــلْبي لا تَـــألُو زِنــادَ الأسـى قَــدْحَا
وليس ذميما عَهْدُ مجْلـــسِ ناصِحٍ
فَـــأقْبـلَ في فَرْطِ الـوَلُوعِ بِهِ نُصـحَا
كأنِّي لَمْ أشهَدْ لَدَى عَيْنِ شَهْدَةٍ
نِـــزَالَ عِـــتابٍ كَانَ آخِـــــرُهُ الفَـــتْــحا
وقَائُ جَانِيهَا التَّجنِّي فإنْ مَشى
سَـفيرُ خُضُـــوعٍ بَـيْـنَــنَـا أكّـــدَ الصّـلْحا
افتتح الشاعر أبياته بأسلوب خبري مخاطبا صديقيه، مخبرا عمَّا وصل إليه من حزن إثر هذا الفراق ، فحتى الأعياد لا تفرحه، ثم مستفهما عن حال الذي يمسي ويصبح مشتاقا، ثم لجأ للتشخيص ليبعث الحيوية في المكان فأبرز العقاب في صورة كائن حي يبعث في نفسه الشوق لهذا المكان، وشخص جوف الرصافة في شكل كائن حي بعث فيه الذكريات التي ربطته بهذا المكان والقصور تهتاج شوقا لقلبه صارت تشتاق لقلبه، هذا النص يحتشد بالصور التشخيصية موظفا الاستعارة ليبعث الحركة في شرق العقاب، وجوف الرصافة، وقصر الفارسي، والكناية لينفي الذم عن مجلس ناصح، وهذه الصور الحركية تعبر عن مهارة الشاعر في التصوير، فالشعور بالذكريات، والشوق والهياج، بدلا من أن تكون نابعة من الشاعر تجاه المكان، جعلها نابعة من محتويات المكان في صورة تعبر عن قوة تأثره وارتباطه بمكونات بالمكان.
وها هو من سجنه يتذكر قرطبة، وأماكن لهوه، وأصحاب أنسه في أماكن اللهو، في أيام صباه، يكتب قصيدة تتدفق رقة وعذوبة وسهولة، في جزء منها يقول:
وَ يَا رُبّ مَلْهًى بالعَـقِـيـقِ ومَـجْــــــلِسِ
لَـدَى تُرْعَةٍ تَرْنُو بِأحْــدَاقِ نَرْجِــــــــسِ
بِطَاحُ هَــــوَاءٍ مُطْمِعِ الحَالِ مُؤنِسِ
مَغِيمٍ وَلَكِنْ مِنْ سَنَا الرَّاحِ مُشـمِسِ
إذَا ما بَــــدَتْ في كأسِها تَـــتَــلألأ
افتتح الشاعر أبياته بذكر مجلس لهوه بالعقيق، ثم شرع يصف ذلك المكان، محددا موقعه بالقرب من مسيل الماء – ترعة – مشخصا هذه الترعة في صورة كائن حي يستمتع بالنظر لجلستهم في هذا المكان، مستعينا بالاستعارة لإبراز هذا التشخيص، مكونا صورة حركية آية في الروعة، ثم يشرع في تشبيه الأحداق بزهر النرجس، ليجعلها عيونا ترنو بها الترعة، ثم يواصل مهارته في التشخيص، فيصور بطاح الهواء – أي ممرات الهواء- كأنها إنسان يؤنسهم في ذلك المكان بقدر ما تطمع فيه أنفسهم من أنس، فالصورة السمعية جلية في هذا الوصف المستعار، ثم يختم مقطوعته مازجا بين الصورة اللمسية والبصرية في تجسيده للخمر في صورة جسم مضيء يجعل المكان مشمسا عندما تتلألأ.
كان الشاعر بارعا في تصويره للمكان وفقا لما يتداعى في خياله، وما يختلج في نفسه من ذكريات في هذا المكان، مستخدما الوصف الاستعاري ليكون صورا حركية تضفي على المكان مسحة من الجمال، وصورا سمعية تضفي على المكان حلاوة الأنس، ومازجا بين الصورة اللمسية والبصرية، معتمدا في هذا التصوير على خياله وبراعته التصويرية.
طبيعة الأندلس ساحرة وخلابة، وقد صادفت في ابن زيدون إحساسا مشبوبا، وقلبا متفتحا، وموهبة مواتية، فافتتن بها أي افتتان، وقد لمسنا هذا الافتتان من خلال النماذج السابقة المرتبطة بشعرية الحنين إلى المكان، فهو كثيرا ما يلجأ إلى مظاهر الطبيعة، مستعينا بالتجسيد والتشخيص، لإبراز المكان في صورة تثبت دوما ارتباط الشاعر به ارتباطا قويا، ناتج من نشأته فيه، ومجالس أنسه، وذكرياته، والشوق عنده هو إلى تلك المجالس والذكريات، التي كان المكان مسرحا حدثت فيه، فكان المكان عنده مفتوحا أليفا، يرتدي من الخضرة ثيابا، ومن الزهر طيب العطر ورقة النسيم، مستمتعا بمظاهر الطبيعة فيه، وفقا لما يصورها خياله، وليس على ما هي عليه في هندسة المكان وجغرافيته، مكان يشعر فيه بالأمان بين ندمائه، مكان جمعه بمحبوبته مكان يدين له بكل مشاعره وكينونته، وصورته عنده تخيلية نابعة من ذكرياته عندما يسترجع ذكريات الماضي.


الحنين - المكان ـ الأسلوبية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع