مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو


اُكْتُبْ قبلَ أنْ تَنْطَفِئ

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


03/03/2024 القراءات: 456  


اُكْتُبْ قبلَ أنْ تَنْطَفِئ

صديقي العزيز خذها نصيحة من أخ محب، وأخص بهذا الكلام طلبة العلم وأصحاب الأقلام:
خصص جزءاً من وقتك لتنفع به الناس، فقد لا تملك منبراً، ولا مساحة للقاء الناس، لكني على يقين بأنك ستفيد الأمة عبر هذه الشبكة العنكبوتية أضعاف ما يفيده إمام المسجد، أو خطيب المنبر، افعل ذلك زكاة علمك، وصدقة عن صحتك، ولو سطريْن من كتاباتك الخاصة، دون قص ولصق، فكم من كلام منسوب لكاتب أو كتاب وهو ليس له، وكم من دسائس منتشرة بين الناس في العالم الافتراضي، وكم من حديث منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو موضوع ومكذوب، وخاصة عبر برنامج الواتساب.
وسأقترح عليكم أفكاراً صغيرة للكتابة، عسى أن تكون بذرة خير وبداية مشرقة، اكتب مثلاً عن حُكم فقهي مع دليله، أو شرح حديث مع ما يستفاد منه، أو تدبر آية وما يؤخذ منها، أو فكرة اجتماعية مفيدة للأمة، أو رد على شبهات وأباطيل، واجعل ذلك ذخراً لك عند الله تعالى.
واعلم أخي العزيز:
أنك إن بدأتَ وكتبتَ وتابعتَ فقد تؤلف كتاباً خلال فترة قصيرة من الزمن دون أن تشعر، فإن استطعت أن تفعل ذلك يومياً فبها ونعمت، فإن لم تستطع ففي الأسبوع مرة، فإن لم تستطع ففي الشهر مرة، ولا تعطل طاقاتك العلمية، بل قال أحد العلماء: يجب أن يقرع بالسوط ظهر من يقدر ولا يبادر، ولا تنس المقولة الرائعة: (مُتْ فارغاً) وستملأ ميزان حسناتك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلم سليم.
ولا تقل ليس لدي مراجع أو مصادر؛ فأكثر الكتب متوفرة على الشبكة وبضغطة زر يصبح الكتاب بين يديك، فاستعنْ باللهِ ولا تعجِز، وإن أصابَك شيءٌ فلا تقلْ: لو أني فعلتُ لكانَ كذا وكذا، وطالب العلم اليوم محتاج إلى صدقٍ في الإخلاص مع خبرةٍ في الاختصاص، ومن جميل ما قاله الإسنوي عن الإمام النووي رحمهما الله تعالى: (جعل تصنيفه تحصيلاً، وتحصيله تصنيفاً).
أخي طال العلم: هب أنك أصبحت عالماً بل أمسيت أعلم مَن في الأرض ولم ينتفع بعلمك أحداً؛ فما فائدة ذلك كله؟ اجعل لنفسك صدقة جارية، أو أثارة من علم يتناقلها الناس ويستفيدون منها ولو بعد وفاتك.
إن من أوائل الكتب التي اقتنيتها كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي: تقرأ فيه سيرة رجل ليس له إلا منظومة في المواريث أو رسالة صغيرة في الحديث، سبحان الله! تجده بهذه الرسالة الصغيرة حجز لنفسه مكانًا مكيناً في كتب الأعلام، ولولا رسالته الصغيرة هذه لم يُعرف، بل بسببها ربما عرفنا بلده وشيوخه ومواقفه.
فطالب العلم بعد التأليف والتصنيف تكتب له ولادة جديدة، لذا أحرّضك على الكتابة، ليكون اسمك في ذيول تراجم العلماء، وكما قال كعب بن زهير أحد الفحول المخضرمين:
والمرءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ
لا تَنْتَهِي العَيْنُ حَتَّى يَنْتَهِي الأثَرُ

ثم تأمل أخي الفاضل:
كيف أن كثيراً من الملوك والوزراء مروا عبر التاريخ ولا يذكرهم أحد، وهناك من كتب ولو رسالة صغيرة لكن أصبح له ترجمة بين العلماء، والناس يستفيدون من علمه إلى يوم القيامة، ولا أدل على ذلك من الرجل العظيم ابن الوزير الدمشقي راوي كتاب "الأم" للإمام الشافعي.
بل هناك ابن الوزير الصنعاني اليماني، الذي تبحر في جميع العلوم العقلية والنقلية وفاق الأقران واشتهر صيته، وطار علمه في الآفاق، وهو الذي ألف كتابه (ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان)، وكتابه الآخر (العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)، ثم ‏اختصره ابن الوزير في (الروض الباسم)؛ فوقف عليه ابن المقري، وأرسل له رسالة:
(ليس هذا هو الروض الباسم؛ بل هو الحسام القاصم.. لم تترك شبهة إلا فضحتها، ولا حجة إلا أوضحتها، ولا زائغاً إلا قوّمته، ولا جاهلاً إلا علّمته، ولا ركناً للباطل إلا خفّضتَه، ولا عهداً لمبتدع إلا نقضتَه).
وهكذا فقد عَرَف ابن الوزير الأكابر والأصاغر، وفي النهاية أصبح ابن الوزير مشهوراً في الأرض وفي السماء، أما أبوه الوزير ذاته فلا أحد يعرفه!
وأخيراً أخي العزيز:
لا تستهلك وقتك وجهدك فيما لا جدوى منه، ضنّ بوقتك لعمل جليل يخدم الأمة، ولا يغرنك ثناء قريب أو تزكية حبيب، انظر إلى منزلتك عند الله تعالى وعند الناس، وقيّم تأثيرك الإيجابي في محيطك العلمي والاجتماعي.
إن طريق البداية ليس له نهاية.. ‏ابدأ.. وانطلق.... ثابر واستمر.. وكل مُرٍّ سيمُر..


اُكْتُبْ قبلَ، تَنْطَفِئ، بادر، صنف، انطلق


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


احسنت دكتورنا الفاضل


حقيقة يغفل عنها الكثيرون، شكراً لك دكتور