مدونة د. عامر ممدوح


في فضاء النص التاريخي : نص وبراءتان

د. عامر ممدوح | Dr. Aamer Mamdoh


10/12/2019 القراءات: 1927  



ما زال النص التاريخي يحمل قدرته على الحضور من جديد على طاولة البحث والدرس ، مهما ظن البعض انه غدا مستهلكاً لكثرة ما تم استخدامه ، ولا غرابة ولا حرج ، ما دمنا نتحدث عن قراءة بشرية متغيرة يوماً بعد آخر ، وفهمٍ متفاوت من باحث إلى آخر .
نقرأ مثلا النص الاتي :
(وكان يوسف بن تاشفين لا يزال يفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء ، ناشدين الله والإسلام ، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته ، فيستمع إليهم ، ويصغي لقولهم ، وترق نفسه لهم ) الحميري ، الروض المعطار ، ص 288 ـ 289 .
إن هذا النص المهم يمكن ان يمنحنا براءتان ، في موضوع بقي وما زال مدار حديث ونقاش :
الاولى : براءة للشعب الاندلسي ، الذي يبدو أن معظمه كان مغلوباً على امره ، وأنه لم يفقد جوهره ومعدنه الحقيقي الذي تجلت أشعته ونمت وعلت ووصلت الذروة زمن الخلافة الأموية .
واننا حين يؤرقنا السؤال في خضم متابعة احداث عصر الطوائف الأليم عن صوته الغائب ، أمكننا القول هنا وبثقة ، انه كان ضمن ( الاغلبية الصامتة ) ، فبين من هجرته الفتنة ، او غيبه الموت اغتيالاً وظلماً ، هناك من بقي ولم يكن لينخرط في أتون نيران الصراع المستعرة ، فلما جاوز الامر حد المعقول ، انبرت الجموع تشكو وتعرض مظلمتها لزعيم القوة الفتية المتصاعدة من أرض المغرب ، الأرض السند ، والتي طالما كانت منبع الظهير المسلم ، ألا وهو ابن تاشفين .
ومن ثم هنا يمكننا ، ونحن نربط بين ثنايا الأحداث ، تعليل ابنعاث تلك الروح الجهادية مجدداً في الزلاقة ، تلك الروح التي لم تمت ، ولكنها خفتت تحت وطأة الظروف والأحداث المؤسفة ، فلما تهيأت لها الظروف لتعلو ، وتسمو ، عادت فقالت قولتها في ذلك النصر المؤزر .

والبراءة الثانية هي لابن تاشفين ، والذي يتهمه البعض ظلماً ، بل ومنهم زعماء الطوائف أنفسهم ، بأنه كان يطمح للسيطرة على الأندلس .
ان النص أعلاه ، يظهر لنا أن ابن تاشفين لم يكن يفكر بالسيطرة على الاندلس ، أبداً ، بل ان عبوره الأول كان بهدف الانقاذ لا غير ، واستجابة لدموع وشكوى أهل الأندلس الذين كانوا يتركون أكبر الأثر في نفسه التي لا تتمالك إلا وأن ( ترق لهم ) كما يعبر الحميري .
وهنا تتكامل الصورة مع نصوص آخر تبين لنا بان ابن تاشفين جمع زعماء الطوائف عقب الزلاقة ، حاثاً وناصحاً ومنبهاً ومحذراً ، ولكن دون جدوى ، فمن اعتاد الخيانة بقي على تنكره لكل الثوابت والمبادئ .
مثلما أن الأمر يتوافق مع شخصية ابن تاشفين نفسه ، ذلك الذي يصفه ابن عذاري وغيره ، فيقول (كان خائفاً لربه ، كتوماً لسره ، كثير الدعاء والاستخارة ، مقبلاً على الصلاة ، يأكل من عمل يده ... يفضل الفقهاء ويعظم العلماء ، ويصرف الأمور إليهم ، ويأخذ فيها برأيهم ، ويقضي على نفسه بفتياهم .. وكان معظماً مهوباً ، لا يخلد إلى راتبة ، ولا يسكن إلا دعة ) البيان المغرب ، تحقيق: بشار عواد معروف ، ص 37 ـ 38 .

واخيراً .. كم تتناثر المشاعر الدينية في هذا النص ، كم تتجلى الأخوة الإسلامية بأبهى صورها ، كم يظهر دور العالم والفقيه المسلم الأصيل في توجيه بوصلة الحداث نحو مرضاة الله ، وتحقيقاً لمعنى الإيمان المطلوب العميق .


الأندلس ، الزلاقة ، فلسفة التاريخ ، المرابطين ، تحليل الخطاب ، يوسف بن تاشفين


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع