مدونة مسعد عامر سيدون المهري


أثر العناصر البيانة في تشكل الصورة الشعرية 1

مسعد عامر سيدون المهري | Musaad Amer Saidoon Almahry


08/06/2022 القراءات: 1163  


يُعدُّ التَّصويرُ الفنيّ مِن أهمِّ عناصر التجربة الشعريّة؛ لارتباطه الوثيق بالعملية الإبداعية، منذ بدايتها الأولى إلى عناصر تشكيلها، من هُنا نرى عنايةَ النقاد العرب في الكشف عن جماليتها وتركيبها، والحكم على الشعراء والأدباء بالجودة في تقديمها وعدمه.
ولقد وضع الجاحظ الأسس الأولية التي يتشكل منها التصوير الفني، مرجعا ذلك لا إلى المعاني وحدها إذ إن " المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي، وإنما الشأن إقامة الوزن، وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير" . فصناعة القصيدة إنما تنهض على الصياغة والتصوير. فالصياغة تتجسد في المقومات الشكلية من ألفاظ، وعباراتٍ، وجملٍ وتراكيب، أما الصورة فيتحدد مفهومها في كل ما من شأنه إخضاع الذهني المجرّد، أو البعيد المعقّد، وتقديمه في قالب حسيٍّ قريبِ المنال من الذَّهن والقلب والشعور، من خلال الوسائل اللغوية، بعبارة أخرى يتمثل التصوير في "ما نتجاوز بالعقل معناها الحرفي إلى معنى أو معان أخرى مجازية أو غيرها، وذلك يكون بالتمثيل، والكناية والاستعارة من كل ما يفتح أمام القارئ آفاقا من التفكير أو التخييل."
ويمكننا أن نلاحظ من خلال إرجاع الجاحظ العملية الشعرية إلى التصوير، أنّه "عندما طرح فكرة التصوير على هذا النحو، كان يطرح لأول مرة في النقد العربي، فكرة الجانب الحسي للشعر وقدرته على إثارة صورة بصرية في ذهن المتلقي، وهي فكرة تعد المقدمة الأولى للعلاقة بين التصوير والتقديم الحسي للمعنى" .
وبإستثاء إشارات الجاحظ وملاحظاته، لم ترد الصورة الشعرية في النقد بهذا المصطلح المشهور في الدراسات المعاصرة، حيث كان إدراك الدارسين القدماء لها ينحصر فيما تتمتع به العناصر البيانية من طاقات تعبيرية تمتد لمساحات الخيال والعاطفة، وتصبح تقليدا شعريا مرتبطا بالنماذج الأصيلة من شعر العرب، يقول ابن طباطبا: "واعلم أن العرب أودعت أشعارها من الأوصاف والتشبيهات والحكم ما أحاطت معرفتها، وأدره عيانها ومرت به تجاربها.." وتتمثل هذه العناصر البيانية في التشبيه والمجاز والاستعار والكناية.
وربما يعتبر عنصر التشبيه من أكثر هذه العناصر "ظهورا وجذبا للانتباه للوهلة الأولى- من غيره، إذ أن أداته تجعله أول ما يلفت انتباه المتلقي للشعر، فضلا عن كثرته الملحوظة في الشعر الجاهلي أمر لفت انتباه اللغويين لفتا شديدا ودائما"( ) . لذلك وُجِدَ أنَّ الجبيدين من الشعراء ألتزموا هذا اللون البياني، واستعانوا بها في تقديم صورهم الشعرية، حتى غدت في بعض الأحيان عنوان التقديم والتفضيل، على نحو ما هو مشهور من "تميز امرؤ القيس عند النقاد بصوره التشبيهية "حيث ذكر ابن سلام في كتابه طبقات فحول الشعراء أنَّهُ ".. شبه النساء بالظباء والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي..كان أحسن أهل طبقته تشبيها"( ) .
والملاحظ في نماذج الصور الشعرية في النصوص الشعرية التي يتوقف عندها النقاد، يرى بوضوح أنها صورا تتشكل من عالم الحس، يدخل في تفاصيلها كل من كاللون والحركة، مثل هذه الصورة التي ألتقط فيها الشاعر حركة هذا الطائر في قوله:
• كأنـي بــــِفختــــــاء الجنــــــاحين لــــقـــوة ... دفــــــوف مــن العقبـــــان طأطأت شـــملال
نرى الشاعر شبه فرسه بالعقاب التي يصفها بأنها لينة الجناحين، وهي في انقضاضها خفيفة سريعة، دفوف: أي حسنة الدنو من الأرض في انقضاضها، وهي تضرب بجناحيها، شملال : خفيفة سريعة يريد سرعة اختطافها واصعادها محلقة . فنحن أمام صورة حركية تتمثل صورة العقاب في حالة الانقضاض بسرعة والتحليق في لمحة نظر، واعتمدت هذه الصورة على التشبيه حيث يشبه الشاعر فرسه في سرعته بها.
فالتشبيه إذن عنصر مهم من عناصر الصورة البيانية؛ نهض بدوره الحلوري في خدمة الوصف العام، وتُقدّم الصورة من خلاله في أنماطها الحركية والحسية والبصرية والسمعية وغيرها " يكشف لنا تأملها أن الشاعر الجاهلي كان يفترض أن الشعر ليس مجرد القدرة على نظم كلمات موزونة مقفاة، بقدر ما هو قدرة على دقة الوصف والتشبيه" .
وفي كتاب "أسرار البلاغة" للإمام عبد القاهر الجرجاني تفصيل للصور التشبيهية بطريقة تحليلية فريدة، يربط فيها الإمام بين ألفاظ الصورة ودلالتها مع التعمق لأغوار النفس بطريقة ناقدة نافذة، يقول: " واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه، أن التمثيل إذا جاء أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهةً، وكسبها منقبةً، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلفاً، وقصر الطباع على أن تعطيها محبةً وشغفاً"
أمّا اللون البياني الآخر فهو الاستعارة، وهي تُعد من ألوان الصورة البيانية التي لا يبعد أثرها عن أثر التشبيه, بل ربما تتجاوزه لقيامها على عناصر التجريد والتشخيص، وبها "يكتسب المجاز الاستعاري قيمته الجمالية من قدرته على نقل حالة شعورية يحياها الأديب وهذا يتطلب تبعا لتميز تجربة الفنان وتبلورها خلق تصورات غير مألوفة في سياق القصيدة".
وتحفل كتب التراث النقدي عند العرب بالكثير من النماذج التحليلية لجماليات الصورة الاستعارية، يمكن أن نقف على نموذج منها؛ وهي قول امرئ القيس:
• فقـــلتُ لـــــــــه لمــــــــــا تمطـــى بِصُـــلبِـــــهِ ... وأَردفَ أَعجـــــــــــــــــــازاً ونـــــــــــــاء بِـــكلكلِ
ويحلل صاحب الطراز هذه الاستعارات بقوله: "فلما جعل لليل وسطا ممتدا، استعار اسم الصلب، وجعله ممتطيا، استعارة لطوله، واستعار الأعجاز لثقله وبطئه، واستعار الكلكل لمعظم الليل ووسطه، أخذا له من كلكل البعير إذا برك، فصور الليل على صورة البعير، حيث جعل له صلبا يتمطى به أولا، وثنى بذكر العجز، وثلث بالكلكل حتى يكاد يخيل أنه كصورة البعير، وهو من أبلغ الاستعارة ومحاسنها"( ) .
وبناء على ما سبق، نرى أن الصورة الشعرية تتجسد في العناصر البيانية من تشبيه واستعارة، وتتجسد كذلك في الوصف.


التصوير ، الشعر ، البيان


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع