مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
لا تكن مجرد إنسان! أ. د. محمد محمود كالو
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU
10/05/2024 القراءات: 472
لا تكن مجرد إنسان!
قرأت مقالاً بعنوان: (كن إنساناً تكن مسلماً!)، فتوقفت كثيراً عند هذا العنوان وخاصة في هذا العصر الزاخر بالحروب والظلم والاستبداد.
وتعجبت من قول الآخر: "إن لم يوحدنا دين، فإن الإنسانية تجمعنا، فلا مفر منها، وإلا تحول العالم إلى غابة"؟!
وقلت: وهل هناك غابة في الدنيا كلها أكثر توحشاً مما نحن فيه؟!
إن الإنسان حيّرَ الإنسان، وبات من الصعب جداً أن نجد من بين أكوام البشر العابرين في حياتنا اليوم إنساناً حقيقياً، فما أكثر البشر وما أقل الإنسان الحقيقي! وربما هذا ما دعا الشاعر أن يقول:
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى
وصوَتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ
فلماذا نفر هذا الإنسان من أخيه الإنسان، ولجأ إلى الذئب؟!
سر معي في دوحة آيات الذكر الحكيم، لنرى كيف تحدث الله تعالى عن الإنسان؟
كلمة (الإنسان) تطلق على من كثر أنسه، وتعني الذي أنست الأرض بوجوده، وذكروا للإنسان معنى آخر هو: النسيان، قد وردت كلمة (الإنسان) في القرآن الكريم ستاً وستين مرّة، وهذه المواضع التي استخدم القرآن فيها كلمة “الإنسان” اتصفت بصفة العجز والنقص كـ (الضعف، والكفور، والظلوم، والكنود، والطغيان والخسران، والفجور، والقتور، واليؤوس، والعجول، والجهول، والهلوع).
قال الله تعالى: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]، أي: لُعِنَ الإنسان الكافر وعُذِّب، ما أشدَّ كفره بربه سبحانه!
قال الإمام فخر الدين الرازي في “مفاتيح الغيب” عند قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [ابراهيم:34]:
"أنَّهُ تَعالى قالَ في هَذا المَوْضِعِ: {إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ} وقالَ في سُورَةِ النَّحْلِ: {إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:18] ولَمّا تَأمَّلْتُ فِيهِ لاحَتْ لِي فِيهِ دَقِيقَةٌ كَأنَّهُ يَقُولُ: إذا حَصَلَتِ النِّعَمُ الكَثِيرَةُ؛ فَأنْتَ الَّذِي أخَذْتَها وأنا الَّذِي أعْطَيْتُها، فَحَصَلَ لَكَ عِنْدَ أخْذِها وصْفانِ: وهُما كَوْنُكَ ظَلُومًا كَفّارًا، ولِي وصْفانِ عِنْدَ إعْطائِها وهُما كَوْنِي: غَفُورًا رَحِيمًا، والمَقْصُودُ كَأنَّهُ يَقُولُ: إنْ كُنْتَ ظَلُومًا فَأنا غَفُورٌ، وإنْ كُنْتَ كَفّارًا فَأنا رَحِيمٌ، أعْلَمُ عَجْزَكَ وقُصُورَكَ فَلا أُقابِلُ تَقْصِيرَكَ إلّا بِالتَّوْقِيرِ، ولا أُجازِي جَفاءَكَ إلّا بِالوَفاءِ، ونَسْألُ اللَّهَ حُسْنَ العاقِبَةِ والرَّحْمَةَ".
وكما قال الله تعالى في موضع آخر: {إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودࣱ} [العاديات:6]، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ والضَّحّاكُ وقَتادَةُ: الكَنُودُ: هو الكَفُورُ.
وقال الحَسَنُ: "الكَنُودُ: اللَّوّامُ لِرَبِّهِ يَعُدُّ المِحَنَ والمَصائِبَ، ويَنْسى النِّعَمَ والرّاحاتِ، وهو كَقَوْلِهِ: {وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ} [الفجر:16]".
ولقد أتم الله تعالى تصوير الإنسان بصورة جميلة قيمة، لكنه يكون أسفل سافلين في حالة شيخوخته وقد يصبح عاجزاً، قال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:4-5]
وذكر الباري سبحانه (الإنسان) فأشار سبحانه وتعالى إلى أنه طاغٍ بعد أن كرمه وبالغ في التكريم على كثير من المخلوقات، فقال في سورة العلق: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ} [العلق: 5،6].
وقال تعالى: {وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: ١٠٠]، والقتور: صيغة مبالغة للشخص البخيل الممسك عن الإنفاق حتى على نفسه أو أهله.
ولما تحدث الباري عن الأمانة وكيف حملها الإنسان قال: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: ٧٢]، والمعنى: قَصَّرَ فِي الْوَفَاءِ بِحَقِّ مَا تَحَمَّلَهُ تقصيراً: بعضه عَن عَمْدٍ، وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بِوَصْفِ (ظَلُومٍ)، وَبَعْضُهُ عَنْ تَفْرِيطٍ فِي الْأَخْذِ بِأَسْبَابِ الْوَفَاءِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِكَوْنِهِ (جَهُولًا)، فَظَلُومٌ: مُبَالَغَةٌ فِي الظُّلْمِ، وَكَذَلِكَ جَهُولٌ مُبَالَغَةٌ فِي الْجَهْلِ.
وقال سبحانه: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: ١٩]، حريصاً ضجوراً، والهلع: شدّة الجَزَع مع شدّة الحرص والضجر.
إذن كلمة (الإنسان) وحدها لا تعني التكريم، ومن يعرف الإنسان أكثر من خالقه سبحانه وتعالى؟!
لقد خلق الله تعالى الإنسان على الفطرة، كثوب أبيض ناصع، نقياً من الذنوب والمعاصي، فإذا بقي على إنسانيته المجردة التي فطره الله تعالى عليها؛ سيكون قد صدَّق بالحسنى، لأنه ترقى من كونه مجرد إنسان (كافر أو ملحد)، إلى مقام الإيمان، أو إلى مقام أعلى وأسمى وهو مقام الإحسان، لذلك قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1].
لكن في المقابل، وفي المقارنة بين الإنسان وبين المؤمن يقول الحق سبحانه وتعالى مقسماً بالعصر: {وَالْعَصْر. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]، والخسر مثل الخسران، كالكفر بمعنى الكفران، أي: إن جنس الإِنسان لا يخلو من خسران ونقصان وفقدان للربح في مساعيه وأعماله طوال عمره.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر:13]، إلا من اتصف بأربع صفات:
1- الإيمان بما أمر الله بالإيمان به.
2- والعمل الصالح، وهو شامل لأفعال الخير كلها.
3- والتواصي بالحق
4- والتواصي بالصبر
فبالأمرَيْن الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرَيْن الأخيرَيْن؛ يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة؛ يكون الإنسان قد سلم من الخسران.
فلا تكن مجرد إنسان، بل كن إنساناً مؤمناً حقاً، لأن كل مؤمن إنسان، وليس كل إنسان مؤمن، ولأن المؤمن خيره كثير فقد شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالنخلة، جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ ورَقُها، وإنَّها مَثَلُ المُسْلِمِ).
إنسان، مؤمن، مسلم، كنود، قتور
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة