مدونة د. علي حفظ الله محمد


التناص الاستعاري Allegorical intertextuality: في لغة التواصل:

الدكتور علي حفظ الله محمد | Dr. ALi Hifdallah Mohammed


26/04/2022 القراءات: 1506  


يمثل هذا المصطلح قِناعًا لقوة النص المستعار وتأثيره في لغة التواصل وتحليل الخطاب، فعملية استمداد النصوص من الذاكرة الجمعية في محيط اللغة الواحد والعُرف اللغوي الواحد بين أبناء المجتمعات التي تتكلم لغة واحدة واستعمالها في التواصل؛ يمثل «تناصًّا استعاريًا» للمتكلم يحمل منه ما تسعفه لغته من نصوص اللغة كالأمثال والحِكَم والأشعار وغيرها من النصوص التي تكون مُحمّلة بجملة من المشاعر والأحاسيس التي صارت خلاصة تجارب الأمم السابقة فيمكن استمدادها والاستشهاد بها في المواقف والمقامات المناسبة في عملية التواصل أو تحليل الخطاب؛ ويمثل هذا المصطلح جِدّية التناص والاستعارة في آن واحد؛ ولكن ليس بالمفهوم الأحادي السابق لكل منهما؛ إذ كان كلٌّ منهما يشير إلى خاصية معينة؛ فالتناص يشير إلى عملية الأخذ والتضمين من نصوص سابقة ودمجها في الخطاب سواء بالإحالة إليها؛ أو عدم الإحالة؛ كما أن الاستعارة كانت تمثّل تشبيه شيء بشيء في وجه من الوجوه التي استعار لها المتكلم لبيان أهميتها في ذلك الوجه.

أما تمثيل الاستعارة هنا فإنها لا تعني تشبيه شيء بآخر؛ وإنما نقصد بها عملية استعارة النص -من الإعارة- سواء كان مثلا أو بيتًا شعريًّا أو حِكمة أو آية، أو أي نص يفيد فائدةً أو طُرفة مُستَملحة في لغة التواصل؛ ويمكن إسقاطها على أحداثٍ متوالية -في لغة التواصل- نظرًا لما تحمله من مشاعر ذات تأثير إنجازي قوي في التصوّر الجمعي لدى جمهور المتلقين؛ بما تملكه من شُهرة وخلاصة تجارب السابقين حد الإيمان بها؛ لما لها من تأثير صارت به من المسلمات التي لا يختلف فيها اثنان؛ وهذا المعنى كان قد تبنّاه د. محمد بازي في كتابه: «البنى الاستعارية نحو بلاغة موسعة».
إذن فمصطلح «التناص الاستعاري» بهذا التركيب الإضافي يعني استعارة النص وتوظيفه في لغة التواصل بما يحمله من جُملة المشاعر التي صاحبته عند قوله في مقامه الأول؛ قصد إسقاطها في الاستعمال التواصلي لإضفاء تلك الطُرفة المستملحة؛ أو الحِكمة المقنعة؛ أو الإعلان الرائج وغير ذلك من أغراض اللغة، لما لها من تأثير إنجازي قوي في المخاطب لإقناعه بالأمر المطلوب ومن ذلك مثلا استحضار المتكلم قول المتنبي:
مَنْ يَهُن يَسهُل الهَوانُ عَليهِ***ما لِجُرحٍ بِمَيّتٍ إِيلامُ
يستمد المتكلم هذا البيت في لغة التواصل مع المخاطب أو المخاطبين حين يريد أن يُحمّل السياق والنص دلالات هذا البيت بما فيها من تأنيب وتحقير ويلصقها بشخص هيّنٍ في نفسِهِ لا يتأثَّرُ بما يجري عليه من إهانات مدى الحياة ولا يؤلمه ما ينطوي عليه من ذل واحتقار، فهو كالميت الذي لا يتألم من الجراحة؛ فلا يحس بالجرح ولا بغيره من الحوادث.
ومن ذلك -أيضا- في مقام الشجاعة والانتشاء وبخاصة عند مقارعة الخصوم قد يتمثَّل المتكلم في مَنْ يراه قول المتنبي:
فَقَد يُظَنُّ شُجاعًا مَنْ بهِ خَرَقُ***وقَد يُظَنُّ جَبانًا ‌مَنْ ‌بهِ ‌زَمَعُ
فحين ينظر المتكلم إلى شخص ما؛ به نوعٌ من الدَّهَشِ والحَزَنِ فيظنه جَبانًا، أو ينظر إلى شخص به نوعٌ من النَّشوةِ فيظنه شُجاعًا؛ وليس الأمر على ظاهره؛ فيتمثَّلَ هذا القول بما يحمله من دلالاتٍ يريد الإيضاح للمخاطب بأن الناس ليسوا على ظواهرهم؛ وإنما العكس هو المقصود من ذلك في هذا المقام.

وقد يستمد المتكلم بعض النصوص ليفيد جزئية من دلالة النص؛ ومثل ذلك قوله تعالى: «ثُمَّ جِئتَ عَلى قَدَرٍ يا موسى»[طه:40]؛ هنا لا يريد المتكلم حمل الدلالة الكلية في تشبيه المخاطب بموسى ومجيئه على ربه في الوقت المقدّر له؛ لأنها منعدمة بفعل العقل والمنطق؛ وإنما أراد اجتزاء دلالة مجيء المخاطب في الوقت المناسب الذي يريده له المتكلم؛ وهي كثيرة التردد على ألسنة الناس بهذه الجزئية من المعنى؛ وجزئية الشعور في الدلالة.
وفي المقابل قد يأتي التناص الاستعاري في بعض الآيات بكامل حِملها الدلالي؛ ومن ذلك المقام الذي يُقالُ فيه قوله تعالى: «إِنْ جاءكُم فاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبَيَّنوا» [الحجرات:6]؛ فالمتكلم هنا حين يستحضر هذا النص يقصد منه كامل الحِمل الدلالي الذي يؤكد على ضرورة التأكُّدِ من الخبر المسموع؛ وألّا يبادر الإنسان إلى تصديقه ما لم يكن على بيّنةٍ منه.

ومما يأتي فيه التناص الاستعاري ضمن الطُرفِ المُستَملَحةِ؛ كأن يستحضر المتكلم طُرفةً في سياق كلامه تناسب ذلك المقام؛ كأن يقول المتكلم للمخاطب: أنت كمَنْ باعَ الصَّفراءَ بالبيضاءِ، تُريدُ من ذلك دلالة الهُزءِ والضَّحكِ من شأن الرجل، نظرًا لما تفيده هذه الطُرفة من عدم علم الإنسان بالأمر أو الشأن الذي بين يديه أو يخصه، وسياقه أن رجلًا كان يحمل في يده الذهب الأحمر ويقول: من يأخذ الصّفراء ويعطيني البيضاء؟ يرى أن الفضّة خيرٌ من الذّهب لجهلِهِ بنوعِ الذّهبِ، أو نظرًا لكثرةِ الفضة في العُرف المجتمعي لديهم دون الذهب لنفاسةِ ثمنه.

وقد يدخل التناص الاستعاري في لغة الإبداع الإشهاري؛ فكما كان سابقًا يوضع علامة الكوكا مثلا في لوح معدني مثبت في جدران المحلات التجارية كعلامة تجارية تسويقية لذلك المشروب الغازي؛ فتطورت هذه العلامة في العالم الرقمي إلى إشهارات متنوعة ومتحركة تلاحق بني البشر في كل مكان حتى على مستوى مجلسك الخاص داخل بيتك تظهر لك عبر الألواح الرقمية التي تمتلكها وتتصفحها دوما في كل مكان وزمان.

كما تعد لغة العالم الرقمي اليوم في وسائل السوشيال ميديا في التعبير عن الأحداث المأساوية أو الفرائحية «تناصًّا استعاريًّا» عن الواقع؛ إذ تكون في الواقع أشياء وأحداث في حياة الإنسان والمجتمعات يُعبّر عنها في العالم الرقمي بـ«التناص الاستعاري» لتقريب المعاني الحقيقية والعالم الحقيقي لجمهور المخاطبين؛ فيؤدي التناص الاستعاري إلى تذويب الفوارق والحدود بين العالمين الواقعي والرقمي من جهة؛ ومن جهة أخرى تذوب الفوارق بين المجتمعات المختلفة ويصبح التصور العرفي متقاربا بين الناس؛ واللغة أداة واسطة لبيان هذا النقل بـ«التناص الاستعاري» المحمّل بكل ما هو في الواقع من مشاعر وأحاسيس.


التناص؛ الاستعاري؛ التواصل؛ تحليل الخطاب.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع