مدونة عبدالحكيم الأنيس


كم ترك الأول للآخر! (الجزء الثاني)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


14/04/2022 القراءات: 905  


ولحاجي خليفة في "كشف الظنون" كلامٌ متينٌ مفيدٌ في هذا الباب، أنقلُهُ على طوله، قال -رحمه الله- (1/ 38):
"ومن الناس مَن ينكرُ التصنيفَ في هذا الزمان مطلقًا، ولا وجهَ لإنكاره مِن أهله، وإنما يحمله عليه التنافسُ والحسدُ الجاري بين أهل الأعصار، ولله درُّ القائل في نظمه:
قل لمَنْ لا يرى المعاصرَ شيئًا ... ويَرى للأوائل التقديما
إنَّ ذاك القديمَ كان حديثًا ... وسيبقى هذا الحديثُ قديما
واعلمْ أنَّ نتائج الأفكار، لا تقفُ عند حدٍّ، وتصرفاتِ الأنظار لا تنتهي إلى غايةٍ، بل لكل عالمٍ ومتعلِّمٍ منها حظ يحرزُه في وقته المقدَّر له، وليس لأحدٍ أنْ يزاحمَه فيه، لأنَّ العالمَ المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي ليس له انقطاع ولا آخر، والعلومُ منحٌ إلهية، ومواهبُ صمدانية، فغير مُستبعد أنْ يُدَّخر لبعض المتأخرين، ما لم يُدَّخر لكثيرٍ من المتقدمين (1).
فلا تغترّ بقول القائل: ما ترك الأولُ للآخر، بل القول الصحيح الظاهر: كم ترك الأولُ للآخر، فإنما يُستجاد الشيء ويُسترذل لجودته ورداءته، لا لقدمه وحدوثه.
ويُقال: ليس بكلمة أضر بالعلم مِن قولهم: ما ترك الأولُ شيئًا، لأنه يقطعُ الآمالَ عن العلم، ويحملُ على التقاعد عن التعلُّم، فيقتصر الآخرُ على ما قدَّم الأولُ من الظواهر، وهو خطرٌ عظيمٌ، وقولٌ سقيمٌ، فالأوائلُ وإنْ فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها، فالأواخرُ فازوا بتفريع الأصول وتشييدها.
كما قال عليه الصلاة والسلام: "أمتي أمة مباركة، لا يُدرى أولُها خيرٌ أو آخرها".
وقال ابنُ عبد ربه في "العقد" [1/4]: إني رأيتُ آخر كل طبقة، وواضعي كل حكمة، ومؤلفي كل أدب، أهذب لفظًا، وأسهل لغة، وأحكم مذاهب، وأوضح طريقة، من الأول، لأنه ناقضٌ متعقبٌ، والأول بادٍ متقدمٌ. انتهى.
ورُوي أنَّ المولى خواجه زاده كان يقول: ما نظرتُ في كتاب أحدٍ بعد تصانيف السيد الشريف الجرجاني بنية الاستفادة.
وذكرَ صاحبُ "الشقائق [النعمانية]" في ترجمة المولى شمس الدين الفناري أنَّ الطلبة إلى زمانه كانوا يعطلون يومَ الجمعة ويومَ الثلاثاء، فأضاف المولى المذكورُ إليهما يوم الاثنين، للاشتغال بكتابة تصانيف العلامة التفتازاني وتحصيلها".
وقال الشيخُ اللكنوي (ت: 1304) في "الرفع والتكميل" (ص51): "وستقولُ بعد الاطلاع على ما فيه مِن كنوز الفوائد، ودرر الفرائد: هذا بحر زاخر، ‌كم ‌ترك ‌الأول ‌للآخر".
والذين استشهدوا بهذه المقولة المضادة المناهضة لمقولة: "ما ترَك الأول للآخر شيئًا" كثيرون، ولهم فيها موارد، ومِنْ ذلك ذكرُها عند الثناء على مؤلِّف، أو على مؤلَّف، أو يذكرونها في سياق الثناء على مَنْ فعل ما لم يفعله أحد قبله.
والناظرُ في تاريخ العلوم والآداب والفنون وتطورها وتجدُّدها يرى مصداق هذا، ويَشهده في الأصول والفروع منها.
وكم هو جميلٌ أن نكون ممَّنْ يُصدِّقُ بها ويُصدِّقها!
____________________
(1) هذه الكلمة للإمام ابن مالك النحوي في "تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد"، ونصها (ص2): "وإذا كانت العلومُ منحةً إلهية، ومواهبَ اختصاصيةً، ‌فغير ‌مستبعدٍ أن يُدَّخر لبعض المتأخرين، ما عسُر على كثيرٍ من المتقدمين، أعاذنا اللهُ مِنْ حَسَدٍ يسدُّ بابَ الإنصاف، ويَصُدُّ عن جميل الأوصاف".


التجديد. الاختراع. الإبداع.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


"والفيض الإلهي ليس له انقطاع ولا آخر، والعلومُ منحٌ إلهية، ومواهبُ صمدانية".... فعلاً كم ترك الأول للآخِر. أجزل الله ثوابكم أستاذنا الفاضل.


أشكركم على المطالعة والمتابعة والتعليق الأنيق. ومن حجر فقد عثر.