مدونة عبدالحكيم الأنيس


كم ترك الأول للآخر! (الجزء الأول)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


14/04/2022 القراءات: 1746  


لا ينبغي أنْ نتوقفَ عند مَن يَضعُ للأمور نهايات، ويُغلِقُ الأبواب، ويسدُّ المنافذ، بل علينا أنْ نوسِّعَ آفاقنا، ونفتحَ أبصارنا لنرى الوجهَ الآخر، الذي عرَفَ الحقيقة، وأن هذا الكون بما فيه قائمٌ على التمدُّد والتطور والزيادة.
وقد كان هناك مثلٌ شائعٌ يقول: ما ترك الأولُ للآخر شيئًا، ولكنَّ أبا تمام (الشاعر العبقري المتوفى سنة 231) ألغى هذه النظرة الضيقة، وقلب هذه المقولة تمامًا إذ قال يصفُ قصيدة له:
يقولُ مَنْ تقرعُ أسماعَه ... كم ترك الأولُ للآخرِ!
وهو القائل:
فلو كان يفنى الشعرُ أفناهُ ما قرَتْ ... حياضُك منه في العصورِ الذواهبِ
ولكنه صوْبُ العقول إذا انجلتْ ... سحائبُ منه أعقبت بسحائبِ
وأكّد الجاحظُ (ت: 255) هذا المعنى بقوله كما في "دلائل الإعجاز" (225):
"‌وكلام ‌كثير ‌قد ‌جرى على ألسنة الناس، وله مضرة شديدة، وثمرة مرة، فمِن أضر ذلك قولُهم: "لم يدع الأول للآخر شيئًا"، فلو أنَّ علماء كل عصر مذ جرتْ هذه الكلمة في أسماعهم، تركوا الاستنباطَ لما لم ينته إليهم عمَّنْ قبلهم، لرأيتَ العلم مختلًا".
وللمسعودي (ت: 346) كلمة رائعة وهي قوله: "العلوم نامية غير متناهية"، وذلك في سياق كلامه على مشكلة القديم والحديث، وأُوردُهُ لأهميته، قال في كتابه «التنبيه والإشراف» (1/ 66):
«ونحن وإنْ كان ‌عصرُنا متأخرًا عن عصر مَنْ كان قبلنا من المؤلِّفين، وأيامنا بعيدة عن أيامهم فلنرجو أنْ لا نقصر عنهم في تصنيفٍ نقصده، وغرضٍ نؤمه، وإنْ كان لهم سبق الابتداء فلنا فضيلة الاقتداء، وقد تشتركُ الخواطر، وتتفقُ الضمائر، وربما كان الآخر أحسنَ تأليفًا، وأتقنَ تصنيفًا؛ لحنكة التجارب، وخشية التتبع، والاحتراس مِن مواقع الخطأ، ومِن ها هنا صارت العلومُ نامية غير متناهية، لوجود الآخر ما لا يجدُه الأولُ، وذلك إلى غير غايةٍ محصورةٍ، ولا نهايةٍ محدودةٍ».
وقد أجاز ابنُ جني (ت: 392) للمتأخر مخالفةَ المتقدِّم، واستشهد بأقوال الجاحظ، والمازني، وأبي تمام، ولكن بشروطٍ وضعها، فقد ذكرَ أنه لا يُسمح للمخالف بالإقدام على مخالفة الجماعة التي طال بحثُها وتقدم نظرُها "إلا بعد أنْ يناهضه إتقانًا، ويثابته عرفانًا، ولا يخلد إلى سانح خاطره، ولا إلى نزوةٍ من نزوات تفكره، فإذا هو حذا على هذا المثال، وباشر بإنعام تصفحه أحناء الحال، أمضى الرأي فيما يريه اللهُ منه غير معاز به، ولا غاضٍّ من السلف -رحمهم الله- في شيء منه، فإنه إذا فعل ذلك سدد رأيه، وشيع خاطره، وكان بالصواب مئنة، ومن التوفيق مظنة، وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: ما على الناس شيء أضر مِن قولهم: ما ترك الأول للآخر شيئًا. وقال أبو عثمان المازني: وإذا قال العالم قولًا متقدمًا فللمتعلِّم الاقتداءُ به والانتصارُ له، والاحتجاجُ لخلافه إنْ وجد إلى ذلك سبيلًا. وقال الطائي الكبير: يقول مَنْ تطرق أسماعه …». الخصائص (1/ 191-192).
وقال ابنُ فارس في "الصاحبي" (ص217-218): «ومَن ذا حظرَ على المتأخر مضادة المتقدِّم؟ ولم تأخذ بقول مَن قال: ما ترك الأول للآخر شيئًا، وتدع قول الآخر: كم ترك الأول للآخر؟ وهل الدنيا إلا أزمان، ولكل زمنٍ منها رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأفهام ونتائج العقول؟ ومَن قصَرَ الآدابَ على زمانٍ معلومٍ، ووقفها على وقتٍ محدودٍ؟ ولم لا ينظر الآخرُ مثل ما نظر الأولُ حتى يؤلف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى فِي كلّ ذَلِكَ مثل رأيه؟
وما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلتْ بهم مِن نوازل الأحكام نازلةٌ لم تخطر على بال مَن كان قبلهم؟ أو ما علمتَ أن لكل قلب خاطرًا ولكل خاطر نتيجة؟ ولم جاز أنْ يُقال بعد أبي تمام مثل شعره وَلَمْ يَجُزْ أن يؤلف مثل تأليفه؟ ولم حجرتَ واسعًا، وحظرت مباحًا، وحرمت حلالًا، وسددت طريقًا مسلوكًا؟ ... ولو اقتصر الناسُ على كتب القدماء لضاع علمٌ كثيرٌ، ولذهب أدبٌ غزيرٌ، ولضلّتْ أفهامٌ ثاقبة، ولكلّتْ ألسنٌ لسنة، ولما توشى أحدٌ لخطابة، ولا سلك شعبًا من شعاب البلاغة ...».
وقال مجد الدين ابن الأثير (ت: 606) في «النهاية في غريب الحديث والأثر» (1/ 11):
«وما أحسنَ ما قال الخطابي وأبو موسى -رحمة الله عليهما- في مقدمتي كتابيهما، وأنا أقول أيضًا مقتديًا بهما: كم يكونُ قد فاتني من الكلمات الغريبة التي تشتمل عليها أحاديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم رضي الله عنهم، جعلها الله سبحانه ذخيرةً لغيري يُظهرها على يده ليُذكر بها. ولقد صدق القائلُ الثاني: ‌كم ‌ترك ‌الأول ‌للآخر".
وقال أخوه ضياء الدين ابنُ الأثير (ت: 637) في "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" (2/ 47): "وأما الضرب الآخر من المعاني، وهو الذي يُحتذى فيه على مثالٍ سابقٍ، ومنهجٍ مطروقٍ، فذلك جلُّ ما يستعمله أربابُ هذه الصناعة، ولذلك قال عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم؟
إلا أنه لا ينبغي أنْ يرسخ هذا القول في الأذهان؛ لئلا يُؤيس من الترقّي إلى درجة الاختراع، بل يعول على القول المُطمع في ذلك، وهو قول أبي تمام:
لا زلتَ من شكريَ في حلةٍ … لابسها ذو سلبٍ فاخرِ
يقول مَنْ تقرع أسماعَه … ‌كم ‌ترك ‌الأول ‌للآخرِ!
وعلى الحقيقة فإن في زوايا الأفكار خبايا، وفي أبكار الخواطر سبايا، لكنْ قد تقاصرت الهمم، ونكصت العزائم، وصار قُصارى الآخر أنْ يتبع الأول، وليته تبعه، ولم يقصر عنه تقصيرًا فاحشًا".
وقال الفيروزابادي (ت: 817) في «القاموس المحيط» (ص27): «ولمّا رأيتُ إقبالَ الناس على "صحاح" الجوهري، وهو جديرٌ بذلك، غير أنه فاته نصفُ اللغة أو أكثر، إمّا بإهمال المادة، أو بترك المعاني الغريبة النادّة، أردتُّ أنْ يظهر للناظر بادئ بدء، فضلُ كتابي هذا عليه، فكتبتُ بالحمرة المادةَ المهملةَ لديه، وفي سائر التراكيب تتضح المزيةُ بالتوجه إليه، ولم أذكر ذلك إشاعةً للمفاخر، بل إذاعةً لقول الشاعر: كم ‌ترك ‌الأول ‌للآخر".
يتبع


التجديد. الاختراع. الإبداع.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع