مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
كيف تبنى الأوطان؟ – ثانياً: العدل -
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU
14/02/2025 القراءات: 5
كيف تبنى الأوطان؟ – ثانياً: العدل -
تبنى الأوطان بسواعد وعقول المخلصين الصادقين، الذي يحملون هم الوطن، ويسعون إلى استقراره، وترسيخ أمنه وأمانه، والمحافظة على أركانه ووحده صفه، وصون مقدراته ومكتسباته، ليبقى شامخاً برايته، محققاً لتطلعاته.
تبنى الأوطان بمثل ذلك الرجل الذي كان يخاف من الله تعالى إذا تعثرت بغلة في أرض العراق وهو في المدينة، ومن ينام تحت شجرة ويقابل المبعوثين تحتها، وليس فيمن يعيش في قصره لا يلتفت لنواح النساء والأطفال والشيوخ الجياع أو العطشى بلا ماء أو الذين بلا مأوى أو الذين يشويهم حرارة الصيف وهم بلا كهرباء، أو يعيشون في زمهرير الشتاء دون أن يعبأ بهم أحد.
وسنتابع أسس بناء الدولة: بعد العلم الذي تحدثنا عنه في المقال السابق.
ثانياً: العدل: وبه قامت السماوات والأرض، والحكمة تقول: "العدلُ أساسُ الملك"، وهذه قاعدة مطردة استقرت عند الساسة والعامة وثبتت بالواقع والتاريخ، وسنة كونية ربانية لا فرق فيها بين دولة مسلمة أو دولة غير مسلمة.
فمن جعل العدلَ أساسَ ملكِه قويت شوكته، وعظمت دولته، ولو كان كافراً، ومن جعل أساس دولته الظلم، وتضييع الأمانة وإهدار الحقوق لم تبق دولته، ولو كان مسلماً، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة".
وذكر ابن خلدون في مقدمته فصلًا بعنوان: "الظلم مؤذن بخراب العمران”، بيَّن فيه أن الظلمَ إذا انتشر، خربت البلادُ، واختلَّ حالُ العباد.
وقد قال الله تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} [الرحمن: 9]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ} [النحل: 90]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اتقُوا الظُّلْمَ؛ فإن الظلم ظلُمات يوم القيامة) [رواه مسلم].
والعدل قيمة مطلقة مطلوب في كل حال ومن كل أحد:
مطلوب من الراعي مع رعيته فيكون به أول السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله (إمام عادل)، ومن الرعية مع بعضهم أيضاً، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135]
ويكون مع الموافق والمخالف والمحب والمبغض، قال الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8]، أي: ولا يحملنكم بُغْضُكم لبعض الناس على أن تحيفوا عليهم أو تظلموهم؛ بل يجب على المسلم أن يعدلَ حتى مع هؤلاء المخالفين.
فالعدل لازم لقيام الأوطان وبقائها، والظلم مؤذن بهلاكها وفنائها.
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا وجلَّاه في حديثِ أسامةَ بنِ زيدٍ حينما أراد أن يشفع في المرأة المخزومية التي سرقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتَشْفَعُ في حَدٍّ من حُدُود اللّه تعالى؟ ثم قام، فاخْتَطَبَ، ثم قال: إِنَّما أَهْلَكَ الذين مِنْ قَبْلِكم أَنَّهم كانوا إِذا سَرَقَ فيهم الشَّرِيفُ تَرَكُوه، وإِذا سَرَقَ فيهم الضَّعِيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فاطمةَ بِنْتَ محمدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها) [متفق عليه].
وكَتَبَ بَعْضُ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَيْهِ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَدِينَتَنَا قَدْ خَرِّبَتْ، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقْطَعَ لَهَا مَالا يَرُمُّهَا بِهِ فَعَلَ!؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَمَّا بَعْدُ: "قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكَ، وَمَا ذَكَرْتَ أَنَّ مَدِينَتَكُمْ قَدْ خَرِّبَتْ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا، فَحَصِّنْهَا بِالْعَدْلِ، وَنَقِّ طُرُقَهَا مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّهُ مَرَمَّتُهَا وَالسَّلامُ".
وكتب إليه والي خراسان يقول: «إن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك». فكتب إليه عمر: «أما بعد: فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم والسلام».
إن إقامة العدل في المجتمعات ضرورة لأنه الحارس للعقيدة والمال والنفس والعرض، والعدل خصب البلاد وأمن العباد، فإلى العدل يأوي الضعفاء، ويلوذ إليه الفقراء، وفي العدل إنصاف للمظلوم، ورزق للمحروم، به يجتمع الشمل، وتتحد الكلمة، وتدوم الرابطة، وتقوى الأواصر بين الناس.
بناء الأوطان، العدل، أساس الملك، الدولة العادلة، الدولة الظالمة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع