مدونة البيتي العلمية


التحليل النقدي للخطاب السياسي (خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي أنموذجاً)

حسن محمد عبدالله البيتي | Hassan Mohammed Abdullah Albaiti


25/04/2022 القراءات: 6374  


من أشهر خطب التاريخ السياسي وأكثرها اختصار، وأفصحها لساناً في ذلك الزمان، وتحمل لغتي الحزم والوعيد، هي خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي، عندما ولي أمر أهل العراق سنة 75هـ، وكيف اختار الزمان والمكان والحال المناسب لإلقاء خطبته.
وتتجلى هذه الخطبة في أنها موجهة لأناس لم يسلم منهم الولاة إطلاقاً، ولم ينفع معهم أي أسلوب في ردهم لجادة الصواب، فكانت خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي الشرارة السياسية الأولى لاستبباب حكم بني أمية في العراق برهة من الزمن.
يحدّث عبدُ الملكِ بنِ عميرٍ الليثيِّ وهو شاهد عيّان على ما جرى، فيصف المكان وهو المسجد الجامع بالكوفة حيث يعتبر أكبر تجمع للخطابة، وأما حال المستمعين فهم في غنى، حتى أن الواحد لديه عشرة أو عشرين من الموالي.
وعند دخول الحجاج للمسجد، صاح بهم أحدهم منبه لدخول والي بني أمية الجديد، وهنا ذكر الليثي حالة الحجاج التي دخل بها، وهي الصمت، والتلثم، وتقلد السيف، والجلوس على المنبر ساعة بدون كلام، وهذا النوع من المواصفات تدل على نوعية الخطاب الذي سيلقى (الأيدلوجيا)، والناس بدأت تسخر منه.
ثم بعد إماطته اللثام، افتتح خطبته بالبيت الشعري الشهير لسحيم بن وثيل الرياحي، قائلاً:
أَنَا ابنُ جَلا وطَلاَّعِ الثَّنَايَا *** متى أَضَعِ العِمَامَةَ تَعْرِفُونِي
و(ابن جلا) أي الواضح المنكشف أمره، وذلك في اللغة كناية عن الشخص المتعالي بنفسه، و(طلاع الثنايا) أي صعوده ثنية الجيل – أي طريقها– وذلك كناية عن تحمله للمشاق والصعاب، وأما العمامة فتلبس عند الحرب وتوضع عند السلم.
والافتتاح بالشعر من صفات العرب الأولى عند الوعيد أو الرجاء، كما تبين ذلك قصيدة البردة لكعب بن زهير عند النبي محمد عليه الصلاة والسلام في حال الرجاء.
ثم انتقل من لغة الشعر للنثر مستخدماً الاستعارات المكنية بتشبيه الأشياء بأشياء أخرى محسوسة، وذلك بقوله: "يا أهلَ الكوفةِ، أَمَا واللهِ إِنِّي لأَحْمِلُ الشَّرَّ بِحِمْلِهِ ... وكَأَنِّي أَنْظُرُ إلى الدِّمَاءِ بينَ العَمَائِمِ واللِّحَى تَتَرَقْرَقُ".
فقد جعل الشر شيء محمول، وله نعل، وإنسان يجزئ بمثل ما عمل، ثم ذكر صفات تنبئ عن مستوى الكبرياء الذي وصل له أهل الكوفة، مشيراً إلى أنه حان قطع الرؤوس، وهو من سيتولى المهمة، وبالفعل تم ذلك، حين أمر جنوده المنتشرين في المسجد بأن يقتل كل من يخرج من أي باب من أبواب المسجد عدا الباب الذي جعله آمن لخارجيه، وهذا الأسلوب الخطابي فيه صفة "درجة اليقين".
ثم عاد للغة الشعر مستشهداً ببيت رويشد بن رميص العنبري قائلاً:
هذا أَوَانُ الشَدِّ فَاشْتَدِي زِيَمْ *** قد لَفَّها اللَّيلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمّْ
ليس بِرَاعِي إِبِلٍ ولا غَنَمْ *** ولا بِجَزَّارٍ على ظَهْرٍ وَضَمّْ
و(الشد) هنا هو العدو، و(الزيم) اسم لناقة أو فرس كان يملكه رويشد، وقيل اسم للحرب، وأما (الحطم) فهو الراعي الظالم لماشيته، يجعل بعضها تأكل بعض، و(الوضم) ما قطع عليه اللحم.
وذكر بعد ذلك ثلاثة أبيات أخرى تمهيداً لما سيوضحه في خطابه نثراً في توجيه الناس للقتال بإمرة الملهب بن أبي صفرة، ونجد على الجملة في اختيار بعض الأبيات استشهاد صريح وواضح وانتقائي لما ينوي القيام به من تخيير الناس بين القتال أو سفك دمائهم.
وتخيلوا أن هذا الكلام صادر مع وجه عبوس وصوت صاخب وجهوري، ماذا نتوقع من الجالسين أمامه غير أن يعمهم الصمت والخوف وهم يرون الحراس في كل مكان.
ثم جاءت الخطبة في وسطها وخاتمتها بالجمع بين وعيد الحجاج لأهل الكوفة وبين توجيههم للقتال بقوله:
"إِنِّي واللهِ يا أهلَ العراقِ، ومَعْدِنَ الشِّقَاقِ والنِّفَاقِ، وَمَساوِئِ الأَخْلاقِ ما يُقَعْقَعُ لي بالشَّنَانِ"
وهنا نلاحظ بداية لأول أسلوب في أدبيات الخطاب السياسي وهو التقبيح لأهل الكوفة، ثم الأسلوب التالي وهو الاستعارة حيث أراد أن يوضح بأنه لا يروعه ما ليس بحقيقة كمثل الإبل يحرك أمامها القربة، فتفزع فتسرع بالسير.
ثم ذكر بعد ذلك تولية حاكم الدولة الأموية له على أهل العراق، وهذا أسلوب خطابي يدل على إضفاء الشرعية له، وذلك بقوله:
"وَإِنَّ أميرَ المؤمنينَ أطالَ اللهَ بقاءَه نَثْرَ كِنَانَتَهُ بينَ يَدَيْهِ، فَعَجَمَ عِيدَانَها، فَوَجَدَنِي أَمَرَّها عُودًا وَأَصْلَبَها مَكْسَرًا، فرماكم بي"
ثم تأتي بقية العبارات وهي كثيرة كالتالي:
"أَمَا واللهِ لأَلْحُونَّكم لَحْوَ العَصَا ....الخ"
"أَمَا واللهِ لَتَسْتَقِيمُنَّ على طريقِ الحَقِّ أو لأَدَعَنَّ لكلِ رجلٍ منكم شُغْلاً في جَسَدِهِ"
وفي هذه العبارات أسلوب من أساليب الخطاب السياسي المعروف بـ "القمع والقهر"، مؤكد ذلك بأداة القسم "والله"، بالإضافة إلى أدوات التأكيد الأخرى، وفي ذلك قوة للخطاب بكل أنواعه.
ومما قاله: "فإنَّكم لَكَأَهْلِ قَرْيَةٍ كانتَ آمنةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا ... الخ" وهذا يعرف بالتشبيه التمثيلي، وهنا استشهد الحجاج في تشبيه أهل الكوفة بنص قرآني يدل على الجحود والنكران لنعم الله، ومصير ذلك النكران، والتشبيه من أدبيات الخطاب السياسي.
وفي خطبته: "وَإِنِّي واللهِ لا أَعِدُ إِلاَّ وَفَيْتُ، ولا أَهَمُّ إِلاَّ أَمْضَيْتُ، ولا أَخْلَقُ إِلاَّ فَرَيْتُ؛ فَإِيَّايَ وهذه الشُفَعَاءَ والزَّرَافَاتِ والجماعاتِ، وقالاً وقِيلاً، و«ما تقولُ؟» و«فِيمَ أنتم وذاك؟»" وفي هذا توضيح لمبدئه في "المواجهة والمقاومة"
وكان حصيلة ذلك اليوم قتلى على أبواب المسجد ممن لم يستمع لكلامه، وهناك من أصابه الرهب طيلة حكم الحجاج.

المصدر
صفوت، زكي. (1923). جمهرة خطب العرب. (الطبعة الأولى، ص247 إلى ص277) القاهرة، مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. تم الاسترداد من الرابط: http://wadod.net/bookshelf/book/924


الخطاب السياسي النقد الحجاج بن يوسف الثقفي العراق


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع