مدونة الدكتور محمد محمود كالو


معنى قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


18/05/2022 القراءات: 452  


معنى قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}

أولاً: ينبغي التفريق بين رحمة الله العامة التي تكون في الدنيا، ورحمته الخاصة التي تكون في الآخرة، فهو سبحانه يرحم عباده في الدنيا كلهم، مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم، رحمة عامة، فيرزقهم ويطعمهم ويسقيهم ويشفيهم.
فلولا رحمة الله ما تنفس أحد الهواء، ولا وجد أحد شربة ماء.
ومن رحمته بهم أن أرسل لهم الرسل ودلهم على طريق سعادتهم الأبدية وأمهلهم وهم يعصونه. إلى غير ذلك من صور الرحمة التي لا تحصى.
وهو سبحانه بذلك أرحم بعباده جميعاً من الوالدة بولدها، فإن الذي جعل الوالدة رحيمة لا بد أن يكون أرحم منها.
أما رحمته الخاصة التي تكون في الآخرة فلا تكون إلا للمؤمنين، وليس للكافرين فيها نصيب.
فينتقل الكافر من رحمة الله إلى عدل الله، إذ أخرج الكافر نفسه من التأهل لهذه الرحمة الخاصة في الدار الآخرة.
قال تعالى: ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف:156].
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}: هذه الرحمة العامة في الدنيا، فَسَأَكْتُبُهَا: أي أخص بدوامها واستمرارها في الدار الآخرة من هذه صفاتهم، لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ.
أما عصاة المسلمين فمن شاء الله أن يدخله النار منهم بعدله فإنهم لا يخلدون في نار جهنم، إذ لا يسوي بينهم وبين الكفار.
وقال ابن عباس وقتادة وابن جريج: نزلت: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}
قال إبليس: أنا من {كُلَّ شَيْءٍ}
فأنزل الله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}
فقالت اليهود والنصارى: ونحن نتقي ونؤتي الزكاة!
فأنزل الله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ}.
فنزعها الله عن إبليس، وعن اليهود والنصارى وجعلها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
[انظر: تفسير الطبري: 157/13].

ثانياً: كما أن الله ُمَّتصف بالرحمة فهو تعالى ُمَّتصف أيضاً بالعدل، وأسماء الله تعالى وصفاته لا تتعارض.
فإذا قال قائل:
نتوقع أن يرحم الله الكافر في الآخرة لأنه أرحم الراحمين فالرحمة صفته، قلنا: يلزم لذلك أن لا يعدل، قال الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية:21]
فمن تمام حكمة الله وعدله سبحانه أن يفرق بين وليه وعدوه، وأهل طاعته وأهل معصيته، ومن عَبَدَهُ، ومَن عَبَدَ غيْرَه، وإلا فإن التسوية بين هؤلاء جميعاً من الظلم الذي يناقض العدل والحكمة.
من الناس من خلط بين مسألة جواز غفران بعض الشرك، وهو قول طوائف من أهل الكلام والنظر وهي مسألة خلافية، وبين مسألة امتناع الاستغفار والترحم على موتى المشركين، وهي مسألة اتفاقية إجماعية، فتوهم أنَّ الثانية لازمة للأولى ومبنية عليها، وهو غلط قبيح ولهذا عجز عن أن يأتي بنقل واحد عن أهل العلم ممن يجوز مغفرة بعض الشرك، في أنه يجوز الاستغفار للمشرك الميت والترحُّم عليه، ولن يقدر عليه أصلا، لأنـهم داخلون في الإجماع الذي حكاه القاضي عياض والنووي على امتناع الاستغفار والترحم للميت الكافر.
حكى الفخر في (تفسيره) أنَّ من الناس من حمل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} على صلاة الجنازة، قال:
"وبـهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار: تخفيف العقاب، قالوا: والدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين، وهو قوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} وفي هذه الآية عمَّ هذا الحكم، ومنع من الصلاة على المشركين، سواء كان منافقًا أو كان مظهرًا لذلك الشرك، وهذا قول غريب".
وهو على غرابته، يختص بالاستغفار ولا يعم الشهادة، لأن الشهادة يلزم منها دخول الجنة، والكافر ممنوع من دخولها أبد الآبدين، وأمَّا الاستغفار فلا يلزم منه ذلك، بل إن قُدِّر جوازه على هذا القول الغريب، فالمراد به تخفيف العذاب كما تراه في كلام الفخر.
والغريب أن هؤلاء الذين يرقبون في الإنسان حقَّ إنسانيَّته، فيدعون للكافر الميت بالرحمة بمجرد ذلك، يغفلون في الرب جل جلاله حقَّ ربوبيَّته، وفي النبي صلى الله عليه وسلم حقَّ نبوَّته، اللذين لم يحترمهما الكافر فكفر بـهما، فلا أعظم في سبِّ الرب من الشرك به تعالى، ولا أعظم جرمًا في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم من الإعراض عن اتِّباع شرعه، ومعلوم أن الترحُّم على الكافر الميت فيه غمط لحق الله ورسوله ورفع من منتقصهم، ولهذا نـهي عنه.
على أنَّ في الحيل الشرعية مندوحة عن مخالفة نصِّ الشارع، فإذا اضطر للدعاء للميت الكافر لأجل مقام يقتضي الحال فيه المداراة في سياسة أو إعلام، فله أن يدعو وينوي، فيضمر في نفسه معنى الرحمة من نصب الدنيا وتعبها كما قالوا في التهنئة للكافر بعيده وتعزيته بموت.
والله تعالى أعلم.


ورحمتي، رحمة الله، الترحم، رحمه الله، رحمته الخاصة، الاستغفار


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع