مدونة د. بهاء الدين الجاسم


التفريق بين الفاسد والباطل عند الحنفية

د. بهاء الدين الجاسم | Dr. Baha Eddin ALJASEM


09/10/2020 القراءات: 14601  


ورد في السؤال:
يقول الحنفية: الباطل : ماكان فاسدا بأصله ووصفه ، والفاسد : ماكان فاسدا بوصفه دون أصله.
ما المراد بقولهم ( وصفه )؟ تارة يقولون: الصحيح ما استوفى اركانه وشروطه ، والباطل ماكان الخلل في بعض اركانه او شروطه .
فيجعلون ما اختل شرطه باطلا
وتارة يمثلون للفاسد بالنكاح بلا شهود
وفي هذا المثال مشكلتان
الاولى: ينبغي ان يكون باطلا على قولهم الباطل ما اختل احد اركانه او شروطه
والثانية : يقولون لا تفريق بين الفاسد والباطل في العبادات ولا النكاح فكيف فرقوا هنا ؟؟
===============================================================
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
إن أساس الخلاف في هذه المسألة هو اختلاف أنظار الفقهاء إلى مورد النهي.
أما الحنفية: فقد قسموا النهي إلى ثلاثة أنواع:
- نهي وارد على أصل الفعل، ولم يكن هذا الفعل مشروعاً بأي شكلٍ من الأشكال، وأثر هذا النهي هو البطلان، كالزنا والسرقة ونحوها.
- نهي وارد على فعلٍ مشروعٍ، ولكن اقترن به وصفٌ، فكان النهي عن هذا الوصف، كالربا، فأصل الربا أنه بيع أو قرض، ولكن بسبب اقترانه بالزيادة ورد النهي، ولو لا هذه الزيادة لكان العقد مشروعاً. لهذا قالوا عنه أنه عقد فاسد.
- نهي واردٌ على وصفٍ غير ملازم للفعل، كالنهي عن البيع وقت النداء، فالبيع بحد ذاته مشروع، وهو غير مرتبط بوقت النداء أو غيره، ولكنه لما اقترن بهذا الوقت ورد النهي عليه، لذا كان أثر النهي التحريم (الإثم الأخروي) فقط، أما من الناحية الوضعية فهو عقد صحيح.

أما الحنابلة فقد نظروا بشكل مخالف تماماً، لذا جعلوا كل فعلٍ منهي عنه باطلاً، سواء كان النهي وارد على أصل الفعل أو على أوصافه، لذا قالوا ببطلان الصلاة في الأرض المغصوبة، وكذلك حكموا ببطلان العقود التي اقترن بها شرط منهي عنه.

اما المالكية والشافعية فقد توسطوا في هذه المسألة.

وبالتالي: فإن الحنفية فرقوا بين مورد النهي.
فما كان النهي فيه وارداً على ركنٍ من أركانه، أو عنصر أساسي من عناصر الفعل: فإنهم جعلوا هذا التصرف باطلاً، لذلك أبطلوا بيع حبل الحبلة، لأن النهي وارد على محل العقد (المعقود عليه) وكذلك أبطلوا عقد المجنون، لأنه (العاقد) أحد عناصر العقد الأساسية.
أما ما ورد النهي فيه على وصفٍ منفكٍ عن الفعل: فقالوا بفساده، حيث إن هذا الوصف يمكن إصلاحه، وجعلوا أسباب الفساد في العقود ستة: الجهالة، والضرر، والغرر، والتوقيت، والإكراه، والشرط الفاسد .. ولو لاحظتم سيدي ان كل هذه الأسباب قابلة للإصلاح، برفع الجهالة، أو بزوال الإكراه، أو بإلغاء الشرط الفاسد، وهكذا.

فالعبرة بالتفريق بين الفاسد والباطل ليست بالتفريق بين الشروط والأركان، وإنما يكون بالتفريق بين مورد النهي.

وأما التصرفات التي يمكن أن يفرق فيها بين الفساد والبطلان:
فهي كل عقدٍ فيه مبادلة مالية، كالبيع، والصرف، والإجارة، والشركة... ونحوها.
أما ما لم يكن فيه مبادلة مالية فإنه لا يفرق فيه بين الفساد والبطلان، وكالعبادات، وتصرفات الإبراء، كالطلاق، والوقف، والوصية، والكفالة ، والإعارة، ونحوها.
وقد نظم هذه التصرفات شعراً بعض الفقهاء، ونقلها ابن عابدين في حاشيته، في كتاب المهر.

أما مسألة عقد النكاح: كيف نفهم وصف الفقهاء الحنفية له بالفاسد في بعض الأحيان (كفقد الشهود، أوالعقد على الأختين معاً، أو نكاح المعتدة)، والباطل في أحيانٍ أخرى؟

هنالك توجيهان لذلك:
الأول: أن النكاح فيه جانبان: جانب دياني، كمنع الزواج بالمحارم، وهناك جانب قضائي حقوقي مالي، كالمهر والنفقة ونحوها.
لذا: ما كان متعلقاً بالقضايا الدينية التعبدية: فإنه لا يكون إلا باطلاً أو صحيحاً.
وما كان متعلقاً بالقضايا الحقوقية المالية: فإنه يوصف بالفساد أو البطلان.

التوجيه الثاني:
أن عقد الزواج كالعبادات، لا يكون إلا صحيحاً، أو باطلاً,
ولكن: لما نظر الفقهاء إلى أنواع الخلل في عقد الزواج، ورأوا أن أثار النكاح تختلف بحسب نوع الخلل، فإنهم قسموه إلى باطل وفاسد.
فالباطل والفاسد قبل الدخول سواء، يجب فيهما التفريق.
أما بعد الدخول: فالفاسد تثبت فيه بعض الآثاؤ، كالعدة، والنسب، والعدة.
واما الباطل: فلا يثبت فيه أي أثر، إلا ما قيل في مسألة كونه شبهةً تدرء حد الزنا في بعض الصور.
لذا يمكن القول: إن التفريق بين النكاح الفاسد والباطل لا يكون بسبب الانعقاد وعدمه، فكلاهما غير منعقد، ولا أثر لهما قبل الدخول، وإنما التفريق بينهما يكون من ناحية ثبوت الآثار وعدمها.

وعلى هذا التخريج قام علي حيدر شارح المجلة بالتفريق بين الدعاوى القضائية، وأنها دعوى صحيحة، أو فاسدة، او باطلة. على الرغم من أنها لا تتعلق فقط بالقضايا المالية، وإنما فرق بينها لاعتبارات أخرى، كاستكمال المدعي لبعض الشروط التي يمكنه تداركها.

والله أعلم.
وللتوسع يمكنكم النظر في:
- الفروق، للقرافي (الفرق 70)
- حاشية ابن عابدين (باب المهر - النكاح الفاسد)
- المدخل الفقهي، الزرقا (ج2: نظرية المؤيدات الشرعية).

دمتم في أمان الله.
والسلام.
8/12/2017


الفاسد، الباطل، الفقه الحنفي.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع