مدونة مصطفى البكري الطيب الشيخ الهادي الشيخ احمد


دراسات في الشريعة : أهلية الغافل وحكم تصرفاته

مصطفى البكري الطيب الشيخ الهادي الشيخ احمد | Mustafa Albakri Altyeb Alsheikh Alhadi


22/10/2020 القراءات: 1113  


الغفلة ضد الفطانة ، وذو الغفلة (المغفل) هو من اختل ضبطه وحفظه ، ولا يهتدي إلى التصرفات الرابحة كما يهتدي غيره ، فيغبن في البياعات لسلامة قلبه ، وعدم استعماله القوة المنبهة مع وجودها .
وفي التعريفات : الغفلة متابعة النفس على ما تشتهيه . وقال صاحب الفروق : الغفلة: عبارة عن عدم التفطن للشئ وعدم عقليته بالفعل، سواء بقيت صورتها أو معناه في الخيال، أو الذكر، أو انمحت عن أحدهما. وهي أعم من النسيان .

تكليف الغافل شرعاً :
اشترط الأصوليون في المكلف عدة شروط ، منها: أن يكون المكلف قادراً على فهم دليل التكليف الموجه إليه ، وعلى تصور معناه بالقدر الذي يتوقف عليه الامتثال ، لأن الغرض من التكليف الامتثال ، ومن لا قدرة له على الفهم لا يمكنه الامتثال .
ويترتب على ذلك عدة أمور منها : أنه لا يكلف النائم على نومه ، ولا الغافل حال غفلته ، ولا السكران حال سكره لعدم القدرة على الفهم .
قال الغزالي : "تكليف الناسي والغافل عما يكلف محال ، إذ من لا يفهم كيف يقال له افهم ؟" .
وقال الرازي في المحصول : "تكليف الغافل غير جائز للنص والمعقول ، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام "رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق" وأما المعقول فهو أن فعل الشيء مشروط بالعلم به إذ لو لم يكن كذلك لما أمكننا الاستدلال بالأحكام على كون الله تعالى عالماً ، وإذا ثبت هذا فلو حصل الأمر بالفعل حال عدم العلم به لكان ذلك تكليف مالا يطاق" .
وقال الإمام القرافي في فروقه : "يشترط في خطاب التكليف علم المكلف بالتكليف وقدرته على ذلك الفعل وكونه من كسبه لقول الشيخ تاج الدين السبكي في جمع الجوامع : والصواب امتناع تكليف الغافل والملجأ ا هـ .
أما الأول وهو من لا يدري كالنائم والساهي فلأنه لو صح تكليفه لكان مستدعي حصول الفعل منه على قصد الطاعة والامتثال وهو لا يفهم وأنه محال إذ لا يتصور ممن لا شعور له بالأمر قصد الفعل امتثالا للأمر واستحالة اللازم يلزمها استحالة الملزوم" .
والراجح أن الغافل غير مكلف شرعاً ، لأن الغرض من التكليف الامتثال ، والغافل لا قدرة له على الفهم الذي يمكنه من الامتثال ، غير أنه مطالب بضمان ما أتلفه من أموال حال غفلته ، وقضاء ما فاته من صلوات في زمان غفلته .

حكم تصرفات ذي الغفلة :
عرض الفقهاء لأحكام الغفلة في موضعين :
أولا - الحجربسبب الغفلة :
اختلف الفقهاء في الحجر على ذي الغفلة على أقوال : فمنهم من ذهب إلى الحجر عليه لغفلته ، ومنهم من ذهب إلى عدم الحجر عليه مطلقاً ، ومنهم من ذهب إلى عدم الحجر عليه ما لم يصل في غفلته إلى حد السفه .
فذهب أبو يوسف ومحمد من الحنفية إلى أن الحجر يثبت على ذي الغفلة كالسفيه أي : من حين قضاء القاضي عند أبي يوسف ، ومن حين ظهور أمارات الغفلة عند محمد ، وعلى هذا فيزول الحجر عنه بقضاء القاضي عند أبي يوسف ، وبزوال الغفلة عند محمد .
وقد شرع الحجر على ذي الغفلة صيانة لماله ونظراً له ، فقد طلب أهل حبان بن منقذ من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحجر عليه ، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر عليهم ، فلو لم يكن الحجر مشروعاً على ذي الغفلة لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم طلبهم . وذلك فيما روى أنس بن مالك "أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وفي عقدته ضعف ، فأتى أهله نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله : احجر على فلان ، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع ، فقال: يا نبي الله ، إني لا أصبر عن البيع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت غير تارك البيع فقل : هاء وهاء ولا خلابة" .
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يحجر على الغافل بسبب غفلته ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجبهم إلى طلبهم وإنما قال له : قل : لا خلابة ولي الخيار . ولو كان الحجر مشروعا لأجابهم إليه .

ثانيا - شهادة المغفل :
اتفق الفقهاء في الجملة على أنه يشترط في قبول الشهادة : الحفظ والضبط . فالمغفل أي من لا يستعمل القوة المنبهة مع وجودها لا تقبل شهادته ، كما لا تقبل شهادة من كان معروفاً بكثرة الغلط والنسيان ؛ لأن الثقة لا تحصل بقوله ؛ لاحتمال أن تكون شهادته مما غلط فيه .
قال ابن نجيم "قال محمد في رجل أعجمي صوّام قوّام مغفل يخشى عليه أن يلقن فيؤخذ به ، قال هذا شر من الفاسق في الشهادة ، وعن أبي يوسف أجيز شهادة المغفل ولا أجيز تعديله ؛ لأن التعديل يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير والمغفل لا يستقصي في ذلك ".
وعن أبي يوسف أنه قال : إنا نرد شهادة أقوام نرجو شفاعتهم يوم القيامة ، معناه أن شهادة المغفل وأمثاله لا تقبل وإن كان عدلاً صالحاً .
واستثنى المالكية من هذا الحكم ما لا يختلط فيه من البديهيات ، كرأيت هذا يقطع يد هذا ، أو يأخذ مال هذ .
قال ابن عبد الحكم : قد يكون الرجل الخير الفاضل ضعيفاً لا يؤمن عليه لغفلته أن يلبس عليه فلا تقبل شهادته ، إلا أن يكون الأمر المشهود فيه جلياً واضحاً بيّناً لا يلبس على أحد كقوله : رأيت هذا يقطع يد هذا ، ونحو ذلك فإن شهادة المغفل تقبل في مثل ذلك ، وأما البليد فلا تصح شهادته مطلقاً ، والفرق بين المغفل والبليد أن المغفل له ملكة أي قوة منبهة لكن لا يستعملها ، والبليد ليس له ملكة أصلاً .


الغفلة ، التكليف ، الأهلية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع