مدونة د. حسين أبوبكر العيدروس


التشكيليون الأوائل خالدون بفنونهم العظيمة

د. حسين أبوبكر العيدروس | Dr. Hussein Abubakr Al-Aidaros


20/10/2020 القراءات: 834  


إن تاريخ الفن في العالم تاريخ ممتد الى أعماق الأعماق، لا يمكن تصور مداه كما لا يمكن استيعاب رسائله الفنية ومدلولاته بسهولة ويُسر، فالفنانين الأوائل مارسوا الفن في مناطق مختلفة من العالم القديم، سعوا بذلك إلى ترسيخ الكثير من القواعد الفنية ذات الأبعاد الفكرية العميقة، فكان استلهامهم المباشر لواقعهم ومحيطهم هو الحافز والدافع للتميز لانتاج لوحات فنية تصور وتسهم في ربط خيالاتهم وآمالهم ومطالبهم بعقولهم، إذ تجلى همهم في عدم قدرتهم على تفسير الكثير من الظواهر والأحداث الجليلة التي يتعرضون لها.
اعتدنا في حياتنا المعاصرة أن نشهد المعارض الفنية محصورة زمنياً ومكانياً وعددياً وربما نوعياً أيضاً، إلا أن فنانو العصور القديمة قد حسموا تلك الجوانب وأحسنوا اختيار مواقع معارضهم وخامات أعمالهم فتنوعت أساليبهم ومدارسهم الفنية. وقد يكون الأمر مرتبط بثقافة المشاهد ومدى تلقيه واستيعابه، فقد ظلت لوحاتهم لعشرات الآلاف من السنين تبوح برسائلها لأجيال تلو أجيال وما أن تم اكتشافها في زماننا إلا وبدأ البحث من جديد عن رمزيتها، فهي بالنسبة لنا غامضة، ولم يكن ذلك إلا لبُعد الشقة بيننا وبين الفنانين واختلاف معظم الإطار البيئي والثقافي، فالفكر بشتى أصنافه تحور كثيراً ولم يعد بتلك الصورة التي تحمل الكثير من الغموض للحياة، إذ لم تعد الظواهر الطبيعية هي مصدر قلق لا يُعرف مصدرها أو تُعرف بعض مواعيد بروزها وبالتالي لم تعد بحاجة إلى تقديم قرابين لتخفف ضرباتها الموجعة، ولم تعد بعض الحيوانات ذات علاقة مباشرة بأمنه وقوته وخصب أرضه وسقيها بالأمطار.
كانت اللوحات الفنية القديمة تجسد مشاهد الصيد والمطاردة لحيوانات بعينها مثل الجمال و الأبقار والوعول والأيائل وبعض الحيوانات الآكلة للحوم مثل الكلاب والسباع والنمور وغيرها، فرسم فنانو العالم القديم لوحاتهم بطرق متعددة تدرجوا في ابتكارها، فاستخدم الطرق المباشر بحجر صلب على واجهة الصخور التي عادة مايكون لونها بنياً غامقاً بسبب التأكسد الذي يحدث مع مرور الوقت لجبيبات الصخر وتفاعله مع الجو الخارجي من حرارة ورطوبة. فطرق القشرة بصخرة صلبة يحدث تبايناً في اللون، حيث تتقشر الطبقة المتأكسة الخفيفة وتظهر الطبقة الأصلية ذات اللون الفاتح. لذلك يستمر الفنان بالطرق لتحديد رسمه، ثم استخدم في مرحلة لاحقة أداة صخرية صلبة قد تكون من حجر الضران أو المرو (الفلنت) يقوم بالضرب عليها بشكل غير مباشر بواسطة حجر آخر بحيث يتحكم في موقع الضربة فتستقيم خوطه ويظهر الرسم بشكل منضبط أكثر، وفي مرحلة أخرى قام الفنان برسم لوحته بآلة حادة لعلها نفس المادة الحجرية السالفة أو بواسطة مسمار حديدي، فبعد أن يقوم بضبط عناصر اللوحة يبدأ مرة أخرى بطريقة النقر ليقشر المساحات الداخلية للأجسام المرسومة، وتبقى الأطر الخارجية بشكل خطوط دقيقة، وفي مرحلة أخرى استخدم أدوات أكثر حدة وقوة لحفر الأطر الخارجية حفراً عميقاً بشكل حرف (7) ليبقى واضحاً لا يتغير مع الزمن، وفي مرات أخرى قام بكشط المساحات الداخلية بشكل جيد وأعمق بحيث يزيل جميع الطبقة الخارجية أو القشرة بحيث تُظهر عمقاً للشكل المرسوم.
فنانو أوروبا لم يكونوا بمعزل عن غيرهم من المناطق الأخرى سواء في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا، ولكن ربما سبق الكشف عن أعمالهم الفنية قبل هؤلاء الأخيرين، وتميز من فنونهم ماقاموا برسمه من لوحات ملونة قُدر لها الحفظ بسبب وجودها في الكهوف والمغارات العميقة المظلمة مثل كهوف (لاسكو) و(التاميرا) في جنوب أسبانيا وفرنسا، وأغلب المواضيع الفنية كانت لحيوانات مثل البيزون والبقر الوحشي وغيرها من الحيوانات التي لم تعد موجودة في هذا المحيط نظراً لتغير المناخ. وكانت على الرسوم آثار الطعنات المرسومة بالرماح والحراب، وهو أمر لا يختلف من الناحية الفكرية عن غيره من المناطق الأخرى، فقد رسم الفنان مايتمناه ويسعى إلى تحقيقه من الصيد المقدس حتى ولو عن طريق الأحلام والأمنيات.
وفي الصحراء الكبرى توجد مواقع رائعة للرسوم الصخرية بألوان أغلبها الأحمر الارجواني والقرمزي لمشاهد متنوعة لصيد والحرب والرقص، وأشهر مواقعها ومعارضها لقديمة موقع (تاسيلي) في الصحراء الجزائرية، ففيه تظهر براعة الكثير من الفنانين في رسم لوحات واقعية جميلة للغاية تتضح فيها بصورة تفصيلية كل تفاصيل الأجسام للبشر والحيوانات مع تجسيد فريد للحركات مع دقة بالغة في النسب والتشريح، وتفنن في رسم أدوات الصيد، ويُشعرك المشهد من خلالها بأنك في نفس المكان حاضر تشاهد من خلال شاشة أو نافذة. وهكذا هو الفن يولد مع الإنسان ويبرز بالمراس ويتجلى في أحسن صوره مزوداً بالفكر وحاملاً خبرات الأجيال للأحفاد.
وفي مواقع متعددة من شبه الجزيرة العربية تنتشر مواقع مختلفة من حيث العمق الزمني والأسلوب والأهداف، مثل مواقع (جبه) و(الحناكية) و(الشويمس) توجد رسوم تجسد أنواعاً من لحيوانات والرسوم الآدمية وإن ظهرت فيها في بعض الأحيان بطريقة تجمع بين الواقعية والتجريدية، ففيها أشكال الأنسان برؤوس غير واقعية أو رؤوس ذات أقنعة تشبه أشكال رؤوس الحيوانات أو الطيور، وذلك يمثل الجانب الروحي في عصرهم، و ربما تمثل صوراً لبعض الآلهة البشرية حسب اعتقادهم، وتظهر مثل تلك الصور في مواقع مشابهة من اليمن مثل مواقع صعدة، وفي مناطق أخرى لكن بشكل مختلف، وربما تتشابه كثيراً من حيث دلالاتها الرمزية.
أن تلك الأعمال الفنية القديمة تمتلك الكثير من القيم الفنية الجمالية بحيث تسترعي انتباه المشاهد وتجعله يبحث عن تحليلات تشفي غليله وإن كانت لا توصله الى الهدف الحقيقي إلا أنها تجعله يعيش في كنف ذلك الطقس الذي عُملت من أجله. ومن يمد بصره يرى أن الانسان في العصور القديمة قد أشبع وقته بتذوق الجمال أثناء بحثه عن الحقيقة هو الآخر؛ إذ لم تكن مجهوداته وابتكاراته الفنية إلا نتاج مجهود فكري وصراع مستمر لفهم الكثير من القضايا التي ورث بعضها واستحدث البعض الآخر منها فكان حملا ثقيلا يحاول تخفيفه عبر تلك اللوحات .


فنون تشكيلية قديمة رسوم صخرية تاريخ الفن


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع