مدونة محمد أحمد همام


كورونا والحداثة: مداخل تفسيرية (3).

محمد أحمد همام | HOUMAM MOHAMED


07/06/2020 القراءات: 3761  


إن زمن الكورونا الذي نعيشه اليوم هو زمن (سيولة)؛ زمن يضع تحديات الوجود الإنساني المشترك على المحك. فخروج الفايروس عن السيطرة، يؤكد أن الإنسانية تفتقد الممارسات الجديدة، كما تفتقد أنماط الحياة الجديدة، بما يتلاءم والظروف الجديدة. ربما الأمر مازال يتطلب عمليات (إذابة وتمييع) أخرى! لقد أكد باومان أن من مميزات زمن السيولة هو افتقاد الوجهة الواضحة، ولا نملك إلا أن نجرب، وأن نتحسس الطريق في الظلام، وهو ما يعيشه العالم اليوم. ولا نملك إلا (آليات الاستبدال)؛ من مثل ما يتم إنجازه على المستوى البيئي والأيكولوجي، واستعمال الطاقات المتجددة، وتفكيك مصانع الفحم واستبدالها بمصانع الطاقة النووية مثلا. إن العالم اليوم، وهو يواجه الفايروس، يشعر أكثر مما يعلم. كما يعيش، بنظر باومان، لحظة انفصال السلطة، بماهي القدرة على فعل الشيء، عن السياسة، بما هي القدرة على تحديد الشيء الذي ينبغي فعله. وهذا مايزكيه الارتباك الذي نلحظه في القرار السياسي الدولي، إن على مستوى الدول منفردة، أو على مستوى المؤسسات الدولية: السياسية، والصحية، والاقتصادية، والبيئية، والعلمية، وحتى الدينية. إن العالم يعيش ارتباكا لأنه لايدري: ماذا يفعل؟ ولا يعلم: من سيفعل؟ لذلك نفاجئ ببعض المبادرات العفوية، في بعض المجتمعات، بغض النظر عن خلفياتها وأسبابها المباشرة وسياقاتها، تنتمي إلى الأفعال الجمعية الموروثة، من الدين، أو الثقافة، أو القبيلة، أو أية مؤسسة تقليدية. وهي محدودة على كل حال، لسبب موضوعي وهو أن أغلبية أهل الأرض مندمج، طواعية أو قهرا، في نطاق الحداثة ، وشمله فعل التحديث، الصلب والسائل، بما صاحبه من تداعيات ومستجدات، مثل ظواهر: الخوف، والقلق، بشكل غير مسبوق، بسبب كورونا مثلا.
يستعمل باومان (الحداثة السائلة) باعتباره مفهوما تفسيريا، يملك من القدرة النظرية والكفاءة الإجرائية ما يجعله قادرا على تجاوز مفهوم (ما بعد الحداثة) العاجز، بنظره، على فهم التحولات المستجدة في العالم، وتقلبات الحداثة وكذا مسارات فعل التحديث، وانعكاساتها على الحياة اليومية للناس. هذا الفعل التحديثي القائم على (التغير) و(اللايقين)؛ فإذا كانت الحداثة في المائة عام الماضية قد جعلت من أهدافها الوصول إلى حالة نهائية من الكمال، فقد وجدت نفسها اليوم، مع حالة السيولة، تخوض معركة التقدم والتحسين بلا حدود، من دون أن تلوح حالة نهائية في الأفق! بل لم تعد ترغب الحداثة السائلة في مثل هكذا حالة ثابتة ونهائية. وليست السيولة نقيضا للصلابة، كما ذكرنا، بل هي أثر من آثار البحث عنها. وعليه أصبح الجهد التحديثي مركزا في ترسيخ فكرة النظام وفرضه على أرض الواقع، ترغيبا أو ترهيبا. وعليه حلت المرونة مكان الصلابة، من منطلق أن كافة المراكز الصلبة ستظل، بل يجب، أن تظل قابلة للذوبان وتمتثل إليه. فكلما أنجزنا بنية ثابتة وعززنا صلابتها لابد من توفير تقنيات خاصة وفعالة مصاحبة تضمن إذابتها مرة أخرى، وتوفير الضمانات الكافية تعطينا الحق في تفكيكها، ثم إعادة البناء مرة أخرى. وهنا تصبح البنية هشة؛ أي تصبح قابلة للتفكيك بمجرد البناء. وهدف الفعل التحديثي السائل أن يوصل كل البنيات الصلبة إلى هذا المستوى من الهشاشة. ولم يعد هدف الفعل التحديثي السائل هو التحكم في المستقبل وتتبيثه بل ضمان استقلاله وحريته. لقد ظل الفعل التحديثي السائل، ومازال، يخوفنا من الأشياء الثابتة المتماسكة؛ الأشياء التي تبقى أكثر مما ينبغي. هذا الثبات الذي يمثله في الثقافة الغربية (ذنب فاوستوس)؛ عندما تمنى أن يمسك بلحظة جميلة ويجعلها تدوم إلى الأبد. وهذا ما ولد الخوف من كل شيء (لزج)، تحول إلى نوع من النفور الفطري، بتعبير سارتر. وأصبح هذا الخوف هو المحرك للفعل التاريخي في بداية العصر الحديث السائل. فالخوف من السيولة ومن اللزاجة كان نقطة تحول نموذجية. وعليه، سعى الفعل التحديثي في مرحلة الصلابة إلى صياغة القوالب القادرة على استيعاب المعدن المنصهر، وإلى ضمان الحفاظ على تصميم هذه القوالب. لقد كان يسعى إلى الكمال وإلى الاستراحة بعد تعب وعمل شاق. لذلك كان يتقزز العقل الحداثي الصلب من كل جديد. وحتى إذا حصل فليس إلا إجراء أوليا ينتهي إلى الاستقرار والهدوء والراحة. إنه تحول من نظم ومن أطر بالية، من البنيات التقليدية، أصابها الصدأ والعفن، إلى أخرى نهائية ملائمة ومثالية تم تصميمها وفق حاجات الزبائن، وقادرة على الصمود في وجه التاريخ! وقادرة على الخروج بسلامة من كل اضطراب، والعودة إلى حالة الاستقرار والثبات. والمتأمل اليوم في خطابات القادة السياسيين على الخصوص، في مواجهة الفايروس، يلحظ هذه النزعة من الطمأنة ومن التعبير عن الثقة في النظام، وفي قدرته على استرجاع عافيته، وعلى قدرته على هزم الفايروس، والخروج من حالة الطوارئ والمواقف المتقلبة، ومن حالات الغموض والالتباس والكوابيس التي تطارد القائمين على سلامة النظام. وهم يسترجعون، بالمناسبة، مثالية علماء اقتصاد في القرن التاسع عشر عندما بشروا بنمو اقتصادي يصل إلى لحظة تلبية الحاجات البشرية كافة، وهي لحظة ( اقتصاد مستقر) يحافظ على إنتاجيته باستمرار! وهي يوتوبيا تقوم على أيديولوجيا الاستقرار، والقفز على معطى الاختلاف والتنوع الذي يعيش فيه العالم، بما يسبب حالات اضطراب وصراع وتناقض المصالح. ولم يكن يومذاك ماركس وإنجلز، وهما يفككان هذا (الصهر الرأسمالي) إلا شابان متحمسان ومندفعان.
لقد رافق فعل التحديث الصلب، إذن، نوع من الفعل الوساوسي القهري، بتعبير باومان؛ فانتقل من تذويب البنيات قليلة الصلابة، إلى تذويب البنيات مفرطة الصلابة؛ فأصبح الهدف لا شيء، والحركة كل شيء. من هنا حصل (التحول العظيم) في أقل من قرنين من الزمان؛ ووقع التحول في القيم، بين الصلابة والسيولة، من قيمة(طول البقاء) إلى قيمة(سرعة الزوال).فأصبح العالم يعيش حالة سيولة، تعظم المرونة في قلب الأشياء، وتفضل الروابط الإنسانية التي يسهل التخلي عنها، والواجبات التي يسهل عدم الالتزام بها، وكذا قواعد اللعب التي لا تدوم أطول من زمن اللعبة التي نلعبها، وغيرها.


الصلابة، السيولة، باومان، اللايقين، مابعد الحداثة، الدين.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع