التعليم بين أبناء الأغنياء وأبناء الفقراء: تحولات تاريخية وتحديات معاصرة
د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim
11/01/2025 القراءات: 10
يشكل التفاوت في فرص التعليم بين أبناء الأغنياء وأبناء الفقراء قضية محورية في تاريخ المجتمعات، وتتجسد هذه القضية في سؤالين رئيسيين يستحقان التأمل والبحث:
1. في الماضي: لماذا برز أبناء الفقراء كحُماة للعلم في التراث الإسلامي، حتى شاع القول المأثور "لولا أبناء الفقراء لضاع العلم"؟ هذا في وقت لم يكن فيه التعليم النظامي بالصورة المؤسسية الحالية إلزاميًا.
2. في الحاضر: لماذا أصبحت أعلى الشهادات العلمية حكرًا على أبناء الأغنياء في الغالب؟ هذا على الرغم من إلزامية التعليم وشعارات تكافؤ الفرص التي ترفعها الأنظمة التعليمية المعاصرة.
تحليل الأسباب التاريخية والمعاصرة:
١- في الماضي:
كان أبناء الفقراء في تراثنا الإسلامي هم حملة مشاعل العلم وحراسه الأوفياء، حتى قيل بحق: *"لولا أبناء الفقراء لضاع العلم"*. ورغم أن التعليم النظامي بشكله الإلزامي لم يكن موجودًا آنذاك، إلا أن الرغبة الصادقة في تحصيل المعرفة كانت كفيلة بجعلهم يتفوقون في ميادين العلم، مدفوعين بإخلاصهم وتفانيهم، وبفهمهم العميق لمعنى العلم كوسيلة لإحياء النفوس والمجتمعات.
يعود تفوق أبناء الفقراء في حفظ العلم في العصور الإسلامية الزاهرة إلى عدة عوامل:
- الدافعية العالية: كان أبناء الفقراء مدفوعين بحاجة ماسة إلى تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية من خلال العلم، فكانوا أكثر جدية واجتهادًا في طلبه.
- الاعتماد على الذات: نظرًا لمحدودية الموارد، اعتمدوا على أنفسهم في التحصيل العلمي، ما نمّى لديهم مهارات البحث والتحليل والتفكير النقدي.
- التركيز على الجوهر: كان التعليم في تلك الفترة يركز على الجوهر والمحتوى العلمي، وليس على المظاهر والشهادات، ما ساهم في تعميق فهمهم واستيعابهم.
- نظام الوقف: ساهم نظام الوقف الخيري في توفير الدعم المادي والمعنوي لطلاب العلم من الفقراء، حيث كانت الأوقاف تُخصص لتمويل المدارس والمكتبات وتوفير المنح الدراسية.
٢- في الحاضر:
في وقتنا المعاصر، تغيرت المعادلة؛ إذ باتت أعلى الشهادات العلمية من نصيب أبناء الأغنياء، على الرغم من إلزامية التعليم للجميع ورفع شعارات مثل "تكافؤ الفرص". ولكن، يبدو أن هذه الشعارات تظل حبرًا على ورق، نتيجة لما أحدثته الأنظمة التعليمية الحديثة. فقد تحول التعليم من نظام يركز على الإجازة العلمية المتعمقة التي تُقيّم الكفاءة الحقيقية، إلى نظام متدرج يهدف إلى إصدار شهادات أكاديمية، صارت بدورها معيارًا للنجاح بدلاً من المهارات والكفاءات.
ومن ثم ساهمت التغيرات في أنظمة التعليم في تعزيز الفجوة بين أبناء الأغنياء والفقراء:
- التحول من الإجازة إلى الشهادة: استبدلت أنظمة التعليم الحديثة نظام الإجازة العلمية، الذي كان يعتمد على الكفاءة والإتقان، بنظام الشهادات الدراسية المتدرجة، ما حوّل التعليم إلى سلسلة من الإجراءات والطقوس الرسمية التي تُختتم بالحصول على الشهادة.
- المدارس الخاصة: ظهور المدارس الخاصة التي تستقبل أبناء الأغنياء بمناهج متطورة وبيئات تعليمية متميزة، ما يمنحهم فرصًا أفضل في الحصول على الشهادات العليا والالتحاق بالجامعات المرموقة.
- التركيز على الشكل بدلًا من المضمون: أصبح التركيز في التعليم الحديث على الحصول على الشهادة كرمز اجتماعي، بدلًا من التركيز على اكتساب المعرفة والكفاءة الحقيقية، ما أدى إلى تراجع مستوى التعليم الحقيقي.
- التكاليف الباهظة للتعليم العالي: أصبحت تكاليف التعليم العالي باهظة، ما يجعلها عصية على أبناء الفقراء، حتى مع وجود منح دراسية محدودة.
الخلاصة:
إن التحول من نظام تعليمي يركز على الكفاءة والجودة إلى نظام يعتمد على الشهادات والطقوس الرسمية، بالإضافة إلى التفاوت في فرص الحصول على تعليم جيد بين الطبقات الاجتماعية، ساهم في تعميق الفجوة بين أبناء الأغنياء والفقراء في مجال التعليم. ولمعالجة هذه المشكلة، لا بد من إعادة النظر في أنظمة التعليم، والتركيز على الجودة والكفاءة، وتوفير فرص متكافئة لجميع الطلاب بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية. كما يجب إحياء دور الوقف والمؤسسات الخيرية في دعم التعليم وتمويل الطلاب المحتاجين.
تربية، فكر، نهضة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة