مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم
اعلم أن الفضائل لا تنال بالهوينا
باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM
30/05/2023 القراءات: 416
واعلم أن الفضائل لا تنال بالهوينا، فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم، فنحن الأغنياء وهم الفقراء، فإن عمروا دارا سخروا الفعلة، وإن جمعوا مالا فمن وجوه لا تصلح، وكل واحد منهم يخاف أن يقتل أو يعزل أو يسم، فعيشهم نغص، العز في الدنيا لنا لا لهم، وإقبال الخلق علينا، وفي الآخرة بيننا وبينهم تفاوت إن شاء الله تعالى.
والعجب لمن شرفت نفسه حتى طلب العلم إذ لا تطلبه إلا نفس شريفة كيف يذل لنذل، ما عزه إلا بالدنيا، ولا فخره إلا بالمسكنة، وقال ليس في الدنيا عيش إلا لعالم أو زاهد قال وإذا قنعا بما يكف لم يتمندل بهما سلطان، ولم يستخدما بالترداد إلى بابه، ولم يحتج الزاهد إلى تصنع، والعيش اللذيذ المنقطع الذي لا يتمندل به ولا يحمل منه، وما أكثر تفاوت الناس في الفهم حتى الشعراء كما قال بعضهم:
همها العطر والفراش ويعلو ... ها لجين ولؤلؤ منظوم
وهذا قاصر فإنه لو فعلت هذا سوداء لحسنها، إنما المادح هو القائل:
ألم تر أني كلما جئت زائرا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
إنما المحب الصادق هو القائل:
يقولون لو عاتبت قلبك لارعوى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب
انتهى كلامه والبيت الثاني لامرئ القيس قاله في أم جندب.
وقال أيضا في كتابه السر المصون: مثل المحب للعلم مثل العاشق، فإن العاشق يهتم بمعشوقه، ويهيم به، وكذلك المحب للعلم، فكما أن العاشق يبيع أملاكه، وينفقها على معشوقه فيفتقر كذلك محب العلم فإنه يستغرق في طلبه العمر فيذهب ماله، ولا يتفرغ للكسب، فإذا احتاج دخل في مداخل صعبة، فمنهم من يتعلق بالسلاطين إما أن يدخل في أشغالهم، أو يطلب منهم ومن العلماء من يطلب من العوام البخلاء، ومنهم من يرجع عن الجد في العلم إلى الكسب.
وقد كان للعلماء قديما حظ من بيت المال يغنيهم، وكان فيهم من يعيش في ظل سلطان كأبي عبيد مع ابن طاهر، والزجاج مع ابن وهب، ثم كان للعلماء من يراعيهم من الإخوان حتى قال ابن المبارك: لولا فلان وفلان ما اتجرت، وكان يبعث بالمال إلى الفضيل وغيرهم، ثم قال ذلك المعنى فصار أقوام من التجار يفتقدون العلماء بالزكاة فيندفع الزمان، وقد وصلنا إلى زمان تقطعت فيه هذه الأسباب حتى لو احتاج العالم فطلب لم يعط، فأولى الناس بحفظ المال وتنمية اليسير منه والقناعة بقليله توفيرا لحفظ الدين والجاه، والسلامة من منن العوام الأراذل العالم الذي فيه دين وله أنفة من الذل.
وقد قال منصور بن المعتمر: إن الرجل ليسقيني شربة من ماء فكأنه دق ضلعا من أضلاعي، وقد كان أقوام في الجاهلية إذا افتقروا لا يرون سؤال الناس فيخرجون إلى جبل فيموتون فيه. فإذا اتفق للعالم عائلة، وحاجات وكفت أكف الناس عنه، ومنعته أنفته من الذل هلك، فالأولى لمثل هذا (العالم) في هذا الزمان المظلم أن يجتهد في كسب إن قدر عليه، وإن أمكنه نسخ بأجرة، ويدبر ما يحصل له، ويدخر الشيء لحاجة تعرض لئلا يحتاج إلى نذل.
وقد يتفق للعالم مرفق، فينفق، ولا يدخر عملا بمقتضى الحال ونسيانا لما يجوز وقوعه من انقطاع المرفق وطبعا في نفسه من البذل والكرم، فيخرج ما في يده فينقطع مرفقه فيلاقي من الضرر، أو من الذل ما يكون الموت دونه.
فلا ينبغي للعاقل أن يعمل بمقتضى الحال الحاضرة، بل يصور كل ما يجوز وقوعه.
وأكثر الناس لا ينظرون في العواقب، فكم من مخاصم سب وشتم وطلق، فلما أفاق ندم، وقد كان يوسف بن أسباط يزهد ودفن كتبه فلم يصبر عن الحديث فحدث من حفظه فغلط فضعفوه، وقد تزهد خلق كثير، فأخرجوا ما بأيديهم، ثم احتاجوا فدخلوا في مكروهات، وكان الشبلي يقدر على خمسين ألفا فتزهد، وفرقها فنزل به قوم من الصوفية فبعث إلى بعض أرباب الدنيا يطلب منه فقال له يا شبلي: اطلب من الله عز وجل، فقال له: أنا أطلب من الله عز وجل، وأطلب الدنيا من خسيس مثلك، فبعث إليه مائة دينار.
وقال ابن عقيل: إن كان بعث إليه اتقاء ذمه فقد أكل الشبلي الحرام، وقد تزهد أبو حامد الطوسي، وأقام سنين ببيت المقدس، ثم عاد إلى وطنه فبنى دارا كبيرة وغرس بستانا. فمثل هذا المتزهد المخرج لماله كمعير لباسه، كمثل ماء عمل له سكر فإنه يمنعه من الجريان، ثم يعمل في باطن السكر إلى أن ينقب، ولهذا كان أبو هريرة - رضي الله عنه - إذا رأى شبانا قد تنسكوا يقول: الموت الموت جاءهم، خوفا من تغيير حالهم. وكذلك مخرج المال في حال الغنى إذا لم يحسب وقوع الفقر.
وقد رأينا أبا الحسن الغزنوي وقد بنى له رباطا ببغداد ووقفت عليه قرية فكان يقول: يدخل لي في كل سنة ثلاثة آلاف وست مائة دينار فألف ومائتان لي ولأولادي، وألف ومائتان لأهل الرباط، وألف ومائتان للمجلس، فكان يعطي العلماء والقراء والزهاد ولا يقبل منه أحد حتى إنه أفطر في رمضان عند الوزير أبي القاسم الزيني، فبعث إليه خلعة قبل العيد وهذه عادتهم فيمن يفطر عندهم فحدثني الحاجب أنه حملها إليه فقال: لا أقبل، قال: فقبحت له هذا وبالغت حتى قبل على مضض.
وكان يقول: عرضت علي خمسة آلاف دينار فدفعتها بهذه الأصابع الخمس، وقلت: لا حاجة لي فيها، وكان يظن دوام ما هو فيه فاتفق موت السلطان
مسعود فأحضر باب الحاكم ووكل به وأخذت منه القرية فافتقر، فحدثني محاسن بن حماد قال: كان بين الغزنوي وبين عبد الرحيم الملقب شيخ الشيوخ وحشة.
فلما افتقر الغزنوي بعث معي إليه بمائة دينار ورقعة بكارات دقيق فجئت بها إليه، فقال: لا أقبل، فردها عليه، ثم التفت إلي لانبساط كان بيننا، فقال لي: أغنني أنت بعشرة دنانير وخمس كارات، فالصبيان جياع، وكان يقول: من الناس من يحب الموت فمات قريبا. وقد كان يمكنه أن يشتري من دجلة قرى.
والحازم من يحفظ ما في يده كما قال سفيان الثوري: من كان بيده شيء من المال فليجعله في قرن ثور فإنه زمان من احتاج فيه كان أول ما يبذل دينه.
وقد كان صالح بن الإمام أحمد تولى القضاء بأصبهان فلما قرئ عهده بكى وقال ابن عين أبي تراني وعلي السواد؟ ولكن ما توليت حتى ركبني الدين وكثر العيال، وكذلك يحكى عن حفص بن غياث وغيره من القضاة.
اعلم أن الفضائل لا تنال بالهوينا
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع