مدونة .. أ. د. خالد عبد القادر منصور التومي


الهندسة الاجتماعية وعلاقاتها بالتربية والتنشئة السياسية .. الجزء الثاني

أ.د. خالد عبد القادر منصور التومي | Prof. Dr. Khaled A. Mansur Tumi


07/06/2021 القراءات: 1581  


بهذا .. يتجلى المفهوم الشامل لهذه التنشئة، والذي يجمع بين هذين المستويين؛ جاعلاً من "التنشئة السياسية" أن تتخذ شكلاً خاصًا من أشكال ظاهرة التنشئة العامة، والمتمثلة في ما تنقله قنوات السياسة إلى الفرد واستجاباته لها وتنميته لقدراته الذاتية، وبالتدريج وصولاً إلى عموم المجتمع، وهي تلك العملية التي عادةً ما يستخدمها النظام السياسي لتعليم جيله الناشئ سياسيًا، وذلك بنقل بعض من تراثه السياسي عن طريق الوعي أو الحدس إلى أعضاء المجتمع البالغين، أو العمل على خلق تراث جديد لهم حتى يتمكن النظام السياسي الذي يشهد مرحلة تحول جدية من توقع التأييد له مستقبلاً، بمعنى أنها؛ تلك العملية التي يتم بواسطتها نقل المجتمع لثقافته السياسية من جيل إلى أخر، ويكون ذلك عبر مسارين، وهما على النحو التالي سرده تباعًا:

الأول: ذو بُعد عمودي "سيرورة ترسيخ المعتقدات والتمثلات المتعلقة بالسلطة".

الثاني: ذو بُعد أفقي "عبر مجموعات الانتماء"

إذًا .. التنشئة السياسية؛ هي عملية تدريجية يكتسب الفرد بواسطتها هويته الشخصية التي تسمح له بالتعبير عن ذاته وقضاء مطالبه بالطريقة المناسبة له، وهو في ذاته المؤشر الذي عادةً ما يستدعي تعديل الثقافة السياسية السائدة في مجتمع ما، أو خلق ثقافة سياسية جديدة تراها النخبة السياسية ضرورية للعبور بالمجتمع من التخلف إلى التقدم؛ في عملية تفاعلية مركبة تقوم فيها تلك النخبة السياسية بتعليم، وتلقين، ونقل الأفكار والقيم والسلوكيات السياسية إلى أفراد وجماعات مجتمعاتها، مُحددًا منها ما يُعلّمونه لهم كمًا وكيفًا وزمنًا ووسيلةً وأسلوبًا، يُعيدون به وفيه صياغة وفهم وتطبيق ما تعلموه وتلقنوه وفقًا لقدراتهم وخصائصهم الموروثة ومعارفهم وتجاربهم وخبراتهم المكتسبة، بما يجعل من التنشئة السياسية أن تكون عملية تفاعلية "نظام اجتماعي + نظام سياسي" تختلف مكتسباتهم منها واستجاباتهم لها جزئيًا أو كليًا من شخص إلى آخر، وأيضًا في الشخص الواحد من حالةٍ لأخرى ومن وقتٍ لآخر.

وبما أن النظامين الاجتماعي والسياسي في علاقة انسجام وتكامل كأداة للحفاظ على الثقافة السياسية السائدة أو المستحدثة في المجتمع والمؤيدة للنظام السياسي؛ فإن النظامين يكونا أداةً للتنمية السياسية المفتوحة على التوجهات والاحتمالات كلها، إذ تصب هذه التنمية في صناعة السياسية للفرد والمجتمع عبر صناعة أو إعادة صناعة الثقافة السياسية، دون أن يعني ذلك بالضرورة صناعة أو إعادة صناعة هذه الثقافة بطريقة تطابقية استنساخية بلا تعديل أو تغيير، إذ تفرض حتمية قانون التغيير الاجتماعي "تغيرًا موازيًا ومساويًا" في التنشئة السياسية بما يناسب التغيرات الجزئية والكلية الحادثة في الحياتين الاجتماعية والسياسية، الأمر الذي بات ملحوظًا ومؤكدًا في المجتمعات الحديثة، بل أصبح حتميًا ومستمرًا ومتزايدًا في المجتمعات المعاصرة، هذا؛ بفعل ما تعيشه تلك المجتمعات من مؤثرات السيولة والاتساع والكثافة والتداولية المعلوماتية، ومن ثم؛ فقد باتت التنشئتين الاجتماعية والسياسية مُلزمتين بصناعة أو إعادة صناعة الثقافة السياسية للمجتمع بالقدر المناسب من التغيير اللازم لضمان استمرار وتطور قدرة هذه الثقافة والتنشئة وفاعليتهما بما يناسب حجم وطبيعة التغيرات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها الحياة المعاصرة.

ولما كانت تلك الأنظمة السياسية تدّعي في المجتمعات كلها، ارتباطها بأنظمتها الاجتماعية، وانبثاقها منها، وتعبيرها عنها؛ فإن ذلك عادةً ما يفترض ويستدعي قدرًا من الانسجام والتكامل بين التنشئتين "الاجتماعية والسياسية" في هذه المجتمعات، وذلك بأن تكون التنشئة السياسية جزءًا من التنشئة الاجتماعية، متوافقًا معها، ومُتممًا لها، وتكون الخصائص العامة للتنشئة الاجتماعية حاضرةً وفاعلةً في التنشئة السياسية؛ ليتبلور مصطلح "الهندسة الاجتماعية".

إذًا .. الهندسة الاجتماعية؛ هي عملية انسجام وتكامل الثقافتين السياسيتين الفردية والاجتماعية، تأسيسًا لانسجام وتكامل السلوكيين السياسيين الفردي والاجتماعي؛ لتُكون التنشئة السياسية في المجتمعات الديمقراطية، تنشئةً ديمقراطية تستهدف صناعة مواطنين ديمقراطيين، تنشئةً تعمل على تكيف أو تكييف الفرد، ومن ثم المجتمع مع نظامه السياسي، وانتمائه له، وتفاعله معه ايجابيًا، عبر تزويد الفرد والمجتمع بالحمولة الفكرية والقيمية والسلوكية للثقافتين الاجتماعية والسياسية بالشكل الذي يجعل منها المُحدد الأساسي لأفعال وردود الأفعال السياسية "السلبية أو الإيجابية" على المستويين الفردي والاجتماعي.

ختامًا .. نتوصل إلى وجود علاقة انسجام وتكامل بين الهندسة الاجتماعية والتربية والتنشئة السياسية، بيد أن الهندسة الاجتماعية تجمع بين عمليتي التربية الاجتماعية ذات المضامين السياسية العامة غير المباشرة، والتنشئة السياسية ذات المضامين السياسية الخاصة المباشرة، لتحقق توريث الثقافة السياسية والاجتماعية ذات الأبعاد والانعكاسات السياسية للأجيال الجديدة؛ فتُكون عملية سياسية مستمرة ودائمة.

جزيل الشكر لحضراتكم مع عظيم الامتنان


الهندسة الاجتماعية، التربية السياسية، التنشئة السياسية، سيكولوجية السلوك الإنساني


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع