مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(1)

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


30/12/2022 القراءات: 623  


(قال: قد فعلت) رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا (قال: قد فعلت) رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. (قال: قد فعلت)}.
وكم تعجبني فطنة ودقة وذكاء الإمام مسلم، عندما أورد الحديثين ضمن باب جعل عنوانه: " بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق ".
بعد هذا البيان نستطيع أن نقول: إن هذه الآية نسخت حكماً شاقاً جداً، تلقاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة والقبول -رغم مشقته- حيث قررت الآية الأولى في هذه المجموعة: أن كل ما يعمله الإِنسان محاسبٌ به، سواءٌ كان هذا قولاً، أو فعلاً، أو فكرةً وهاجساً في الضمير، سواءٌ كان ظاهراً في الخارج بصورة عملٍ أو كلام، أو كان مخفياً في النفس في صورة خاطرٍ أو وسواسٍ أو هاجس.
وإذا كان المسلم بمقدوره أن يتحكم في قوله أو عمله، بحيث يكون موافقاً للشرع، فإنه يكاد يكون مستحيلاً عليه أن يتحكم في مشاعره وأفكاره وخطراته ووساوسه، فقد يخرج في واحدة من هذه المسائل عن توجيهات الشرع، فإذا حاسبه الله على هذه الأمور اللاإرادية، فقد يكون هذا تكليفاً بما لا يطاق، وتكليفاً بالمحال.
ولذلك شق معنى هذه الآية على الصحابة، وتكلموا في شأنه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فطلب منهم السمع والطاعة والاستسلام ولو كان الحكم شاقاً يكاد لا يطاق، ففعلوا. ولما علم الله ذلك منهم، أنعم عليهم بنسخ هذا الحكم الشاق، وجاء هذا النسخ في كلام واضح صريح: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} إذن ناسخة لمحاسبة العبد على وساوسه وخطراته وخيالاته، لأن ذلك ليس في وسع العبد وقدرته وطاقته، فهذه الآية خاصةٌ في معناها، وهذا الخصوص مأخوذٌ من سياقها ومن الإِلمام بملابسة نزولها. وطالما أن ذلك الحكم منسوخٌ فإن الله لم يكلفنا به، أما إذا كلفنا الله بحكمٍ شرعيٍّ، ولم ينسخه، فإن هذا الحكم في وسعنا وطاقتنا، وإن الله يعلم أن بمقدورنا القيام به، ولذلك لم ينسخه.
إذن هذه الآية لا يجوز أن نطلقها على الأحكام الشرعية التي كلَّفنا الله بها ولم ينسخ هذا التكليف، ولا يجوز أن نعطِّل بها هذه الأحكام ونلغيها، ونجعل الالتزام بها خاضعاً للطاقة الضعيفة، والهمَّة المريضة، والوسع الكسول.
{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، معناها من خلال المفهوم القرآني: إن الله سبحانه عادلٌ في أحكامه في عباده، وإنه لا يكلِّفهم بما لا يطيقون، ولا يطالبهم بالمستحيل، ولا يريد من التشريعات إرهاق عباده، أو إيقاعهم في العسر والحرج والإثم والتقصير، فإن الله سبحانه {وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَج}، و {يُريدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسْر}، وإن الله عليمٌ حكيم، لطيف خبير، يعلم طاقة النفس الإنسانية ومقدار تحملها ووسعها: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَق وَهُوَ اللطيفُ الخَبير}. ولذلك أوجب عليها التكاليف الشرعية، وهو يعلم أنه بمقدور هذه النفس الالتزام بها، وهو يعلم أنها كلها ضمن " وسعها " وطاقتها.
{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} تطالب جميع المسلمين الالتزام بكافة التكاليف الشرعية، وتُعلمهم أنه في وسعهم وطوقهم أن يقوموا بهذا الالتزام، لأن الله هو الذي يعلم مقدار تحملهم وطاقة قدرتهم، ولذلك ألزمهم بها.
ونفهم من هذه الآية أنها تقرر حقيقةً هامةً في قواعد التشريع الإسلامي، وهي أن هذا التشريع بكافة جوانبه ومجالاته يُراعى فيه الطاقة والوسع، ويراد منه التطبيق العملي والتنفيذ الواقعي.كما أن هذا التشريع يتَّصف بالسماحة واليسر، فلا عسر فيه ولا حرج، ولا خيالية فيه ولا استحالة. وهذا كله من مظاهر فضل الله على المسلمين، وإرادته اليسر والرحمة والخير بهم، عندما كلفهم بكل ما كلفهم به.
على أنه من الواجب أن نشير هنا إلى أن التشريع الرباني الحكيم، كان يراعي الحالات الاستثنائية الخاصة، وكان يلاحظ النفس الإنسانية في ظروفها وأحوالها، ولذلك كانت فيه بعض الاستثناءات المتمثلة في " الرخص " الشرعية، والتخفيف في بعض الأحكام التكليفية.
فالمسافر يرخَّص له في الإفطار، ويقصر ويجمع الصلاة، والمريض يفطر ويقضي أو يفدي، والحائض والنفساء يجب عليهما الفطر وترك الصلاة، وتقضيان الصوم ولا تقضيان الصلاة، والحج واجب على المستطيع، ولا زكاة لمن لم يملك النصاب، وأكل الميتة مباحٌ للمضطر، ويباح للمكره أن ينطق بكلمة الكفر مع اطمئنان قلبه بالإيمان. و " إن الله يحب أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ".
على أن تقدير هذه الرخص وتشريعاتها ليس متروكاً للناس، وإنما هو من صلاحيات الحاكم والمشرع في الإسلام، ولهذا بُيِّن هذا وفُصل وحُدد بدقة، بحيث لم يترك لأحدٍ من البشر الزيادة عليه أو الإنقاص منه.
{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وإذا علم الله أن النفس المسلمة في بعض حالاتها تعجز عن أداء بعض التكاليف، فقد أسعفها بالرخص والاستثناءات، المهم أن الترخص والاستثناء والإعفاء إنما هو من الله، وليس من عند البشر وفق ميولهم وأمزجتهم وأهوائهم.
وقد يقول قائل: إنني أجد نفسي عاجزاً أمام بعض التكاليف، ولهذا أعتقد أن هذا التكليف ليس في وسعي، فأترخص فيه وأتركه.
فنقول له: طالما لم ينص الشرع على الترخص في هذه الحالة، ولم يقدم للإنسان إعفاءً واستثناءً، فإن الله يعلم -وهو الحكيم الخبير- أن الالتزام به يدخل ضمن " الوسع "، وكل ما في الأمر أن هذا الإنسان لم يبذل غاية وسعه وجهده وطاقته، وإنما تعامل معه بهمَّةٍ ساقطة، وعزيمةٍ مريضة، ووسعٍ ضعيف، وطاقةٍ متكاسلة. ولهذا نطالبه بأن يضاعف جهده، ويقوي عزيمته، ويشد نفسه، ويمتِّن وسعه، ويقبل على التكليف بعد ذلك، عندها يعلم أنه ضمن وسعه وفي حدود طاقته. وعندها يفهم معنى قوله: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} فهماً صحيحاً صائباً مقبولاً.


{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(1)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع