تجربة حول الموت - كفى بالموت واعظاً ( 2 )
أحمد إدريس الطعان | Ahmad Edrees Altaan
14/02/2022 القراءات: 1447
3- خواطر حول الموت وسكراته :
أعود الآن إلى تلك اللحظات والخواطر التي كانت تنتابني أثناء الانتظار، فقد كنت أتوقع مغادرة الحياة بين لحظة وأخرى، وأتوقع فقداني للوعي بين لحظة وأخرى، مالذي علي فعله ؟ كيف أودع الحياة وأغادرها ؟
دائما كانت وصيتي بحمد الله عز وجل مكتوبة، إلا أنني لم أقم بتجديدها، والمفروض أن يتم تجديد الوصية دائما بحسب معطيات الحياة الجديدة وتطوراتها، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا ينام الإنسان إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه ( )، فطلبتُ التلفون من ابني وبدأت بإرسال وصايا: لزوجتي، ولأولادي، ولإخوتي، ثم كانت وصية مهمة لاخواني الثوار سأنشرها مكتوبة مسموعة إن شاء الله . وكانت الوصايا صوتية وبصعوبة بالغة،إذ لا قدرة لديَّ على الكتابة.
وسَبَّبَ هذا خوفاً عليّ عند العائلة والأولاد، لكني هدأتهم بأن قلت لهم: إن الوصية سنة، ولا بد منها سواء كان الإنسان سيعيش أم سيموت . شعرت ببعض الراحة حين انتهيت من الوصايا التي كنت أسابق فيها الوقت، فما كنت أدري اللحظة التي أتوقف فيها عن القدرة على الكلام، وأفقد الوعي، وفي كل لحظة أشعر بتدهور زائد في جسمي، وازدياد ضربات القلب، وضيق النفس وآلام شديدة في جوانبي .
بدأت أفكر بسكرات الموت، ترى كيف ستكون ؟ كيف ستخرج الروح ؟ هل سيُخفِّف الله عز وجل عني آلام الموت؟ أم سيشدِّد عليَّ، وكل هذا وارد بالنسبة للمؤمن، قد يُشدَّد عليه الموت لتكفير سيئاته، وقد يُخفَّف عنه مكافأة له على بعض أعماله الخيّرة.
وفجأة يرد على ذاكرتي قول الله عز جل: ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [ سورة الأحزاب: 21 ] . وكان نزول هذه الآية على قلبي بردا وسلاما، أنساني كل ما يخطر في البال من آلام الموت، فقد أصبحت أتذكر حبيبنا وسيدنا وقرة أعيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقاسي من آلام الموت، وسكرات الموت، ويقول: ألا إن للموت لسكرات ( ) ، صلى الله عليه وسلم، وقيل له: إنك يارسول الله تُوعَك كما يوعك رجلان منا ؟ قال أجل . قال ذلك أن لك أجران قال نعم( ) . فالنبي صلى الله عليه وسلم يُشَّدد عليه الموت كما يُشَّدد على رجلين من أمته، لأن له أجر النبوة، وأجر الإيمان ، ومع أنه سيد ولد آدم ، وحبيب رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، إلا أنه لمْ ينجُ من شدة الموت وسكراته، فكان هذا الخاطر يا إخواني يجعلني أستهين بالموت، بل وأستلذُّ به، فمن أنا بجوار حبيب قلوبنا، ونور أبصارنا، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذت هذه الآية تتكرر على مسمعي وكأنها تنزل لأول مرة: (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ..)) .
كيف وقد أصبحت أتذكر أيضا سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وسيدنا نوح، وسيدنا موسى، وسيدنا عيسى، عليهم السلام، ثم امتدَّ شريط الذكريات لأتذكر سيدنا أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وسائر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كل هؤلاء العظماء تذوقوا آلام الموت، وتجرعوا سكراته، وهم خِيرةُ الله من خلقه، فمن أنا بجانب هؤلاء العظماء، حتى أخاف من سكرات الموت، أو أطلب ما لا يحق وما لا ينبغي لي .
ومن الخواطر التي غمرتني وخففتْ عني قول سيدنا بلال رضي الله : (( واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه ))( ) ، طبعا إخواني لست في موقع بلال رضي الله عنه -حاشا لله- لكن التَشبُّه بالكبار في المواقف الصعبة مطلوب، فأنا تشبَّهتُ ببلال في هذا الموقف العصيب بالنسبة لي . أجل فإن من أنا ذاهبٌ ومقبل عليهم كرام، كرام، كبار عظماء. سأرى بعد الموت إذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وصحبَه والأنبياء َوالأولياءَ والصالحين، هذا كان يملأ قلبي ثلجا وسرورا، ويجعلني أنسى الموت والفراق والأهل والأحبة، وأنني سأرى والدتي وأختي اللتان سبقتاني منذ سنوات إلى لقاء الله عز وجل.
الأمر الآخر الذي خفف عني من الخوف من الموت وسكراته هو موضوع العقبة التي لا بد منها، فالموت عقبة أمام كل مؤمن، ولا بد أن يمرَّ بهذه العقبة، كأس لا بد يشربها المؤمن ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ﴾، فحين يموت الإنسان المؤمن يكون قد تجاوز هذه العقبة، وشربَ هذه الكأس التي لا بد منها، ويكون قد ارتاح من عقبة تنتظره في طريقه الذي لا مفر منه ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [ الأعراف: 34 ] .
ولذلك سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما رأى النبيَّ صلى الله عليه قد لحق بالرفيق الأعلى قال : أما الميتة التي كتبها الله عز وجل عليك فقد مُتّها ولا يجمع الله عليه موتتين أبدا ( ) فقد أدرك سيدنا أبو بكر أن هذه الميتة موعد مع كل إنسان، سواء كان نبيا أو مؤمناً أو غيره، ومن نِعَم الله عز وجل على المؤمن أن يتجاوز هذه العقبة بخير وبحسنى وخاتمة طيبة على الإيمان بالله عز وجل، وقد وجدتني أقول لنفسي : (( هنيئا لعمي الشيخ عبد الرحمن بكور خلص من هالموتة)) .
ومن الأمور التي كانت تثلج صدري وتخفف عني ؛ هو أن هذا المرض الكورونا يشبه الطاعون الذي جعله الله عز وجل شهادة لكل مؤمن، فقلتُ لعل الله عز وجل يريد أن يتخذَ ويصطفيَ من عباده المؤمنين شهداء بهذا المرض؛ لكثرة ما لاقت هذه الأمة من محن وشدائد؛ فهو بابٌ من أبواب الشهادة، وقد رأينا كيف قضى بهذا المرض عددٌ كبير من أهل العلم والصلاح والفلاح والجهاد . فرجوت الله عز وجل إن كُتب لي الأجلُ بهذا المرض أن يجعلَه شهادة لي، وأن يكون سببا في نيلي الشهادة التي لا يرزقها الله عز وجل إلا لمن يصطفي من عباده.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين . 4/12/2020 صباح الجمعة الساعة التاسعة في مشفى كلس.
أحمد إدريس الطعان .
الموت ، الموعظة، تجربة ، الغنى بالله
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة