مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو


النصر المحمود.. والنصر المذموم

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


11/02/2025 القراءات: 5  


النصر المحمود.. والنصر المذموم
كلّ يوم جديد يطلّ على الإنسان، هو صفحة جديدة بيضاء ناصعة في كتاب حياته، ويمثل له فرصة متجدّدة لتجاوز الثغرات والعقبات، وتحصيل المكاسب والخيرات.
أما أن تطل الحرية بذاتها في ثوبها القشيب فهذا شيء لا يوصف ولا يصدق، وخاصة في هذا العصر، فالحرية التي سطرها قلم التاريخ بدموع الأرامل والثكالى والأيتام، بعد أن انطفأت شمس الأحلام عند كثير من الناس، وتلبد ليلها بأنين الضعفاء والمعوزين، وارتوت أراضيها بدماء الشهداء الأبرار، وتلونت شوارعها ببكاء المشردين من النازحين واللاجئين في جميع أصقاع العالم.
ولكن هذه سنة الله تعالى في عباده، إذ النصر حليف لكل من صبر وصدق، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].
ونلاحظ أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن مجيء الصبح وبداية النهار الجديد، بعبارات توحي بالبهجة والسرور والحيوية، ففي قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34] أي كشف عن وجهه المشرق الذي يتلألأ بكلّ حبّات الضوء التي تتساقط من الأفق
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:18] إنه تعبير بالغ الحيوية والإيحاء فـ الصبح حي يتنفّس. أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدبّ في كلّ حي. وأكاد أجزم أنّ اللغة العربية بكلّ مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرًا لهذا التعبير عن الصبح، فرؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفّس! ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب.
هذا فجر يوم جديد وشعاع أمل متجدد ونور شمس مشرقة تملأ قلوبنا بالرغبة والحماس لبدء يوم جديد، ونسأل الله تعالى ألا تُنْسِيَنَّا نشوةُ النّصر، واجبَ الحمد والشكر على ذلك.
ويمثل سقوط بشار الأسد ونظامه تتويجًا لصراع بدأ عام 2011 مع الربيع العربي، وهي موجة من الثورات التي أطاحت بعدد من الأنظمة العربية في مختلف البلدان، والواقع أن السوريين، الذين عانوا ثلاثة عشر عاماً من الحرب المدمرة، الآن يحتفلون بلحظة كان كثيرون منهم يخشون ألا تأتي أبدًا.
قال الله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة ولمَّا يأتكم مَثَل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساء والضَّراء وزُلزلوا حتَّى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنَّ نصر الله قريبٌ} [سورة البقرة: 214].
نعم فقد مسَّتهم (البأساء والضَّراء وزُلزلوا) بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار، حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال إلى أن استبطأوا نصر الله تعالى مع يقينهم به سبحانه، فجاء النصر الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين، وهذا النصر ليس مقتصراً على الآخرة فحسب، بل يبدأ النصر من الدنيا، كما دلّ عليه قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر:51]، فقد نزلت هذه الآية في غزوة الخندق، حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الشدائد كلها.
ولنعلم أن النصر قسمان: نصر محمود، ونصر مذموم.
فأما النصر المحمود فله صور، منها
أولاً: نصر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الله تعالى أخذ الميثاق على كل نبي أنه إذا بُعِثَ نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليؤمنن به ولينصرنه.
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].
ويستفاد من الآية: علوُّ مرتبة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وأنه أفضل الأنبياء عليهم السلام بل هوسيدهم.
وأخبر الله سبحانه وتعالى أيضاً أن المهاجرين هم الذين صدقوا قولهم بفعلهم عند خروجهم من ديارهم وأموالهم للجهاد في سبيل الله تعالى ونصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
أي: وينصرون دين الله تعالى الذي بعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم، وهي صورة مشرقة وصادقة تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين من الصحابة، حيث أخرجوا إخراجًا من ديارهم وأموالهم، أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في مكة، لا لذنب {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40]، وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} اعتمادهم على الله تعالى في فضله ورضوانه، لا ملجأ لهم سواه، ولا جناب لهم إلا حماه، وهم مع أنهم مطاردون قليلون {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات وأضيق الأوقات، {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدقوها بعملهم، وكانوا صادقين مع الله تعالى في أنهم اختاروه، وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه، وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدبُّ على وجه الأرض ويراها الناس.


النصر المحمود، النصر المذموم، ينصركم، نصر الله، وَلَتَنْصُرُنَّهُ


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع