مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


ومللت إلا من لقاء محدث ... حسن الحديث يزيدني تعليما

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


30/05/2023 القراءات: 404  


حيث رأوا من
التحقيق ما ينكرون، فصالوا لما قدروا عليه، وغالوا لما لم يقدروا عليه، فهم بين قاتل للمتقين مكاشفة حال القدرة، أو غيلة حال العجز، فاسمع هذا سمع قابل فإنه قول من ناصح خبير بالعالم، ولا تهون بهم فتهون بنفسك، ويطيح دمك مما رأيت من جهلهم، إنهم يعني لا يرون الحيل التي وضعها العلماء على ما دلهم عليها الشرع كبيع الصحاح بفضة قراضة ليخرج من الربا أخذا لذلك من قوله - عليه السلام -: «بع التمر ببيع آخر ثم اشتر بثمنه» ويقول الواحد منهم هذا خداع لله تعالى، ويعدل إلى بيع الدينار الصحيح بدينار ونصف قراضة، ويرى أن الربا الصريح خير من التسيب الحلال بطريق الشرع إلى أن قال إن قوله - عليه السلام - عن اللحم الذي تصدق به على بريرة: «هو عليها صدقة، ولنا هدية» طريق مستعمل، ويتعين في كل عين تحرم في حقنا لمعنى إذا ملكها من تباح له لمعنى مبيح ونقلها ذلك إلينا بطريق شرعي ملكناها، والعامة لا ترضى ذلك، وتذم العالم الذي يسلك هذا المسلك.
وسمع وكيع بن الجراح كلام أناس من أصحاب الحديث وحركتهم، فقال: يا أصحاب الحديث ما هذه الحركة عليكم بالوقار. ورأى الفضيل بن عياض قوما من أصحاب الحديث بهم بعض الخفة فقال: هكذا تكونون يا ورثة الأنبياء؟ .

وقال سفيان: سماع الحديث عز لمن أراد به الدنيا، ورشاد لمن أراد به الآخرة، وقال عبد الملك بن مروان للشعبي: يا شعبي عهدي بك وإنك لغلام في الكتاب فحدثني فما بقي معي شيء إلا وقد مللته سوى الحديث الحسن، وأنشد:
ومللت إلا من لقاء محدث ... حسن الحديث يزيدني تعليما
وقال القاضي المعافي بن زكريا الجريري لتفقهه على مذهب محمد بن جرير الطبري قال: نظير هذا قول ابن الرومي.
ولقد سئمت مآربي ... وكان أطيبها الحديث
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبدا حديث
وبعض الناس يترك الصفات المطلوبة التي هي سبب لحصول الرتب العالية اتكالا على حسبه ونسبه، وفعل آبائه فهذا أعمى فلله در القائل:
لسنا وإن كرمت أوائلنا ... أبدا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقد روي أن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - تمثل بهذين البيتين، وقد أحسن القائل في قوله:
يا أيها المرء كن أخا أدب ... من عجم كنت أو من العرب
إن الفتى من يقول هأنذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
وأحسن ابن الرومي في قوله:
فلا تفتخر إلا بما أنت فاعل ... ولا تحسبن المجد يورث بالنسب
فلا لا يسود المرء إلا بفعله ... وإن عد آباء كراما ذوي حسب
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة ... من الثمرات اعتده الناس في الحطب
وقد قال الجوهري في صحاحه في عصم: وقوله: ما وراءك يا عصام؟ هو اسم حاجب النعمان بن المنذر، وفي المثل كن عصاميا ولا تكن عظاميا يريدون به قوله:
نفس عصام سودت عصاما ... وصيرته ملكا هماما
وعلمته الكر والإقداما
وللأصل تأثير، وقد روى الحاكم في تاريخه عن ابن المبارك قال: من طاب أصله حسن محضره، وبعض الناس يحتج لتركه بكبر السن، أو عدم الذكاء، أو القلة والفقر، أو غير ذلك، ومن ذلك وسواس الشيطان يثبطون بها.
ومن نظر في حال السلف وجماعة من علماء الخلف وجدهم لا يلتفتون إلى هذه الأعذار، ولا يعرجون عليها، وقد قيل
ومن يجتهد في نيل أمر ويصطبر ... ينله وإلا بعضه إن تعسرا
فما دمت حيا فاطلب العلم والعلى ... ولا تأل جهدا أن تموت فتعذرا
ولكن ينبغي اغتنام أوقات الفراغ فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وقد صح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» رواه البخاري من حديث ابن عباس. وذكر أبو حفص النحاس قول بعض الحكماء:
بادر إذا الحاجات يوما أمكنت ... بورودهن موارد الآفات
كم من مؤخر حاجة قد أمكنت ... لغد وليس غد له بموات
تأتي الحوادث حين تأتي جمة ... ونرى السرور يجيء في الفلتات
وكان الشاشي محمد بن الحسين الفقيه الشافعي المشهور المتوفى سنة سبع وخمسمائة ينشد:
تعلم يا فتى والعود رطب ... وطينك لين والطبع قابل
وقال ابن الجوزي: إن أبا بكر أحمد بن محمد الدينوري الحنبلي تلميذ أبي الخطاب المتوفى في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة قال أنشدني:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن مكنونها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وإرشاد أستاذ وطول زمان
قال ابن الجوزي: ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق، والعاشق ينبغي أن يصبر على المكاره. ومن ضرورة المتشاغل به البعد عن الكسب، وقد فقد التفقد لهم من الأمراء ومن الإخوان، ولازمهم الفقر، والفضائل ينادى عليها:
{هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} [الأحزاب: 11] فلما أجابت مرارة الابتلاء قالت:
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
ثم ذكر الإمام أحمد - رضي الله عنه - وشأنه وقال: فما شاع له الذكر الجميل جزافا، ولا ترددت الأقدام إلى قبره إلا لمعنى عجيب، فيا له ثناء ملأ الآفاق وجمالا زين الوجود، وعزا نسخ كل ذل، هذا في العاجل، وثواب الآجل لا يوصف، وتلمح قبور أكثر العلماء لا تعرف ولا تزار، ترخصوا وتأولوا وخالطوا السلاطين فذهبت بركة العلم ومحي الجاه، ووردوا عند الموت حياض الندم، فيالها حسرات لا تتلافى، وخسرانا لا ينجبر، كانت صحبة اللذات كطرفة عين، ولازم الأسف دائما. وقد قال الشافعي:
يا نفس ما هو إلا صبر أيام ... كأن مدتها أضغاث أحلام
يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرة ... وخل عنها فإن العيش قدامي
ثم أيها العالم الفقير أيسرك ملك سلطان من السلاطين، وأن ما تعلمه من العلم لا تعلمه؟ كلا ما أظن المتيقظ يؤثر هذا، ثم أنت إذا وقع لك خاطر مستحسن، أو معنى عجيب تجد لذة لا يجدها ملتذ باللذات الحسية، فقد حرم من رزق اللذات الحسية ما قد رزقت. وقد شاركتهم في قوام العيش، ولم يبق إلا الفضول التي إذا حذفت لم تكد تضر، ثم هي على المخاطرة في
باب الآخرة غالبا وأنت على السلامة في الأغلب، فتلمح يا أخي عواقب الأحوال، واقمع الكسل المثبط عن الفضائل.


ومللت إلا من لقاء محدث ... حسن الحديث يزيدني تعليما


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع